أم المتاهات الدبلوماسية

TT

عودة بليكس، هذه العبارة قد تصلح عنوانا لرواية دبلوماسية فكاهية، ضمن رائعة «عودة النمر القرنفلي»، أو ضمن روايات التجسس المثيرة لإيان فليمنج.

موضع حديثنا هنا بطبيعة الحال هو هانز بليكس، الدبلوماسي السويدي البالغ من العمر 74 عاما، والذي يرأس فريق مفتشي الأسلحة التابعين للأمم المتحدة في العراق. فمعركته التي تدور في ساحة تتوسط ثلاث ساحات، هي التي ستقرر ما إذا كانت الحرب ستندلع مرة أخرى في العراق في القريب العاجل من عدمها.

الساحة الأولى تشمل المواجهة المتواصلة مع إدارة بوش في واشنطن. فمن جهة هناك أولئك الذين ما يزالون ملتزمين بتغيير النظام العراقي، ولا شيء غيرذلك. ومن جهة أخرى هناك من يدافعون عن تبني شكل مطور من سياسة «الاحتواء»، بحيث يتسنى إبقاء صدام حسين في «قفصه»، على إفتراض إن هانز بليكس سيواصل مراقبة الوضع، حتى يقرر القدر شيئا ما أفضل للشعب العراقي.

أما الساحة الثانية فتضم قاعة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في نيويورك حيث يخوض الفرنسيون والروس والصينيون، أصحاب «الفيتو» ـ حق النقض ـ معركة شرسة لإبقاء صدام حسين في السلطة أطول فترة ممكنة. وهؤلاء يرفعون شعار «تغيير في النظام لا تغيير النظام».

أما ساحة بليكس في بغداد فستكون الأهم لأن ما سيحدث فيها هو الذي سيقرر محصلة المواجهات الدائرة في واشنطن ونيويورك.

خلال الأيام القليلة الماضية سعى بليكس للتقليل من أهمية الدور الذي سيلعبه حيث يصر على أن قرار الحرب يبقى في يد مجلس الأمن. وهذا الموقف لا يفسر ما يحدث برمته، رغم أنه حقيقي من الناحية الفنية. ذلك أن رفع بليكس لتقرير يفيد بأن العراق لا يمتلك أسلحة دمار شامل سيجعل قرار الأميركيين بشأن شن حرب ضد صدام حسين مستحيلا. وفي المقابل، لا يمكن لأية سفسطة فرنسية أو روسية أن تنقذ صدام إذا ما تضمن تقرير بليكس أن العراق يمتلك بالفعل أسلحة دمار شامل ويخفيها.

وهكذا، فإن ماسيفعله بليكس جدير بالمراقبة خلال الأسابيع القليلة المقبلة.

وعلى الرغم من أنه من المبكر للغاية الفصل في تفاصيل ما سيفعله بليكس، الا إن هناك بالفعل بعض ما يشير إلى أننا قد نشهد مرحلة تكوين مايمكن أن يطلق عليها «أم جميع المتاهات الدبلوماسية».

دعونا نبدأ بقرار مجلس الأمن المتعلق بقبول استجابة العراق للقرار 1441 بدون تفحصه بإمعان. فالحقيقة تشير إلى أن رد العراق المكون من تسع صفحات والذي تم تسليمه يوم 13 نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، لا يحتوى على قبول جلي وغير مشروط للقرار رقم 1441، كما طالب بذلك مجلس الأمن. فمضمون الرسالة العراقية تقول ببساطة إن العراق سوف «يتعامل مع القرار 1441». حتى أن نص الرسالة باللغة العربية يعتبر أكثر غموضا ويمكن تفسيره بالقول إن العراق سوف «يتصدى» للقرار.

أما مصطلح «القبول غير المشروط» فقد ورد على لسان مندوب العراق لدى الأمم المتحدة محمد الدوري، الذي لا تزيد أهمية الدور الذي يقوم به في أوساط النظام العراقي عما يفعله ساع مبتدئ.

فعندما رفض «البرلمان» العراقي بالإجماع القرار 1441، اعتبر الرئيس بوش ما حدث غير ذي شأن، وقال إنه سينتظر موقف صدام حسين. حسنا، تكمن الحقيقة هنا في أن صدام لم يتخذ موقفا. وفي الحقيقة فإن ما تطرحه أجهزة إعلامه على الشعب العراقي هو أنه قد حقق نصرا دبلوماسيا عظيما آخر بجر «العدو الأميركي والصهيوني» إلى مصيدة عملية دبلوماسية تتجاوز حد سيطرة العدو.

فالرسالة العراقية ـ للأمم المتحدة ـ لم توقع حتى من قبل مجلس قيادة الثورة، الذي يعد أعلى سلطة في بغداد بعد صدام حسين. وهو في أفضل حالاته يلزم وزير الخارجية ناجي صبري، الدبلوماسي غير السياسي، الذي يمكن الإطاحة به في أية لحظة.

بعض ما يثير القلق الأعظم يتعلق ببعض تصريحات بليكس الأخيرة. فهذا السويدي الذي اعتاده الناس قليل الكلام، خرج عن طوقه ليدلي بمجموعة من المقابلات والمؤتمرات الصحافية التي يمكن أن تتسبب في فشل مهمته. فهو يطرح ثلاثة أشياء تبدو مثيرة. أولها قوله إنه لن يبدأ مهمته انطلاقا من فرضية أن العراق يمتلك بالفعل أسلحة دمار شامل. حيث يقول: «نفكر في المسألة بعقل منفتح . فنحن لا نستطيع القول إن لدى العراق أسلحة دمار شامل. كما أننا لا نستطيع القول إنه لا يمتلكها».

وهذا، كما قد يدرك أي قارئ لروايات بوليسية، يعد أشد أساليب عمل رجال الشرطة إثارة للتساؤل. فإذا لم تكن متحمسا للعثور على شيء ما فإنك على الأرجح لن تجد شيئا.

وثانيا، يقول بليكس إن فريق التفتيش التابع له سيعمل «طبقا للإجراءات المحددة سلفا». وذلك يعني ما شملته الاتفاقات الموقعة بين الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان وطارق عزيز، أحد مساعدي صدام، في عام 1998 . تلك الاتفاقات التي أدت إلى ما عرف في الدوائر الدبلوماسية بـ«ربطة العنق الداكنة» أو «القفازات البيضاء». فإشارة بليكس لمصطلح «الإجراءات المحددة سلفا» تحمل عواقب وخيمة. إنها تضعف القرار 1441 الذي تمت الموافقه عليه باعتبارة يجبّ جميع القرارات والاتفاقات السابقة.

وتأكيد بليكس الثالث يعد أكثر إثارة. ويتعلق بحق الأمم المتحدة، بل بحق أية دولة في الأمم المتحدة، في تقديم دليل يشير إلى أن صدام حسين يقوم باصطحاب المفتشين باتجاه مسار الحديقة. حيث يقول بليكس إن مثل هذا الدليل يمكن، بطبيعة الحال، تقديمه لمجلس الأمن. لكنه يصر على أن مسألة التأكد من صحة الدليل ثم رفع تقرير بشأنه مسألة تخص فريق التفتيش.

تصريحات بليكس الأخيرة تحتوى على العديد من النقاط المثيرة الأخرى التي تشير إلى قناعته، التي قد تكون غير واعية، بأن مهمته ليست متعلقة بالكشف عن ترسانة صدام المخفية، بل إنها تشمل عرض ورقة توت يمكن أن تجعل من الحرب أمرا مستحيلا.

وهذا قد يكون خيارا شخصيا نزيها . لكنه قد يفرغ المهمة برمتها من مضمونها. فالقرار 1441 وصف بأنه «متشدد» و«شرس». لكنه وصف يشير إلى ولع بالنص الحرفي. فالقرار يوفر صلاحية بـ«تفتيش شديد وشرس». لكن ماذا سيحدث لو أن بليكس لم يحسن استخدام تلك الصلاحية؟

إنه يقول إن عملية التفتيش التي سيقوم بها ستكون «فعالة»، لكن من المؤكد أنها لن تكون شاقة ولا شرسة. فقد لمح بالفعل إلى أنه لن يلجأ لذلك الجزء من الصلاحية المتعلق باستجواب خبراء الأسلحة العراقيين خارج العراق. حيث يقول: «لقد منحني المجلس هذه الصلاحية، لكنني لست ملزما باستخدامها. وأعتقد إنه من الحكمة أن نلتقي بالعراقيين داخل العراق وبحضور ممثلين للحكومة العراقية».

وما يثير الاهتمام بشكل أكبر مساعي بليكس الرامية للتلاعب بمفهوم «الخرق المادي». ففي مقابلة أجريت معه يوم 15 نوفمبر (الجاري) قال إن الأمر ليس بيده لتقرير ما يقصد وما لا يقصد بالخرق المادي لمضامين القرار الدولي. فتلك، كما قال، مسألة بيد مجلس الأمن، استنادا لتعريفات الأمم المتحدة التي ظلت سارية منذ الخمسينات من القرن الماضي.

بعبارات أخرى يصبح الأمر برمته عبارة عن مسألة رأي لا حقيقة. فبليكس يقول إن فريق التفتيش التابع له سيركز على 700 موقع في أنحاء العراق. وهذه مواقع تم تفتيشها في ما بين أعوام 1992 و.1998 ألم يتخيل أن العراقيين تمكنوا من إنشاء مواقع أخرى؟ أليس من الفطنة الزائدة بالنسبة له افتراض ان مجمل العراق قد يكون موقعا للأسلحة؟

فخلال عام 1995 تحدث حسين كامل، صهر صدام حسين الذي فر من العراق حينها، أمام الملأ عن المواقع التي قال مفتشو الأمم المتحدة إنها لم تكن موجودة على الإطلاق.

بإمكان المرء أن يتعرف على نفسية بليكس من خلال تأكيده على أنه لو تعرض واحد من إطارات عربته لعطب فإن ذلك قد يعد حدثا طارئا، لكن لو تعطلت إطارات العربة الأربعة فقد يشك في عمل مقصود يشير إلى سوء النية لدى العراقيين.

ما لم يفكر فيه هو أسلوب صدام في العمل. فصدام قد يعطب كل مرة واحدا فقط من إطارات عربة التفتيش. بحيث يتسنى جعل الدبلوماسي السويدي مشغولا على الدوام بتبديل الإطارات، مع عدم تمكينه حتى من مهاتفة مجلس الأمن وطرح مسألة «الخرق المادي».

هل سيتسنى لصدام حسين التحايل على «الغزاة» الذين يمكن خداعهم مرة أخرى؟ لا شك أنه يعتقد بإمكانية قيامه بذلك. أما نحن فأمامنا ما لا يقل عن 120 يوما لنتبين ما سيحدث.