أميركا اللاتينية بين أجندة الأمل وأجندة الأمن

TT

دعت الأليكسو والإيسيسكو إلى ندوة عربية لاتينية أميركية في مستهل الشهر القادم لتنشيط الحوار بين المجموعتين. وهي تأتي بعد أربعة عشر عاما من ندوة كانت الجامعة العربية ووزارة الخارجية البرازيلية قد دعتا إليها شخصيات من الجانبين في سبتمبر 1988، لتأسيس حوار عربي ـ أميركي لاتيني. وكنت ضمن 12 عربيا و13 لاتينيا وقع عليهم اختيار المنظمين لتبادل المعلومات والتصورات، حول القضايا السياسية والاقتصادية والثقافية، التي تهم كلتا المجموعتين.

كان الرئيس (في ما بعد) فيرناندو هنريكي كارضوزو قد ركز في خطاب الافتتاح على مسألتين: الديموقراطيا والمديونية. وأما خطاب الافتتاح من الجانب العربي الذي تولاه السيد عدنان عمران باسم الجامعة العربية، فقد تركز على القضية الفلسطينية والفرص المتاحة للتعاون بين المجموعتين.

ولم يخف متحدثون لاتينيون أنهم يشاركون لأول مرة في لقاء مع العرب. واعترف متحدث من الشيلي بأنه لا يعرف شيئا عن العالم العربي. وفي ختام العروض والمناقشات كان أحد المشاركين في الندوة يضع خطا بارزا تحت عبارة هي خلاصة الخلاصات، مفادها أن هناك عدوا يتربص بنا جميعا، وهو جهل بعضنا لبعض.

لقد عاشت أميركا اللاتينية النصف الأول من القرن الماضي، حتى الستينات منه، منعزلة عن العالم بأسره. كانت حقلا أميركيا مثل ما أراده مبدأ مونرو، الرئيس الأميركي الذي حظر على غير الأميركيين التدخل في أميركا.

أما العالم العربي البعيد جغرافياً، فكان يمثل بؤرة توترات لا تنقطع، وشاءت الصدف التاريخية، أن يبرز في الخريطة العالمية من خلال الأزمات التي فجرتها محاولاته المحبطة للتحرر والتنمية والتقدم.

انعقدت ندوة 1988 العربية ـ الأميركية اللاتينية في غمرة انطلاق النيوليبيرالية، المكرسة لاقتصاد السوق، التي داهمت شعوب القارة الأميركية الجنوبية، وهي تتخبط في ضيق من أمرها، من جراء المديونية الخارجية. ورافق ذلك انطلاق مسلسل الدمقرطة بمجموع بلدان القارة في منتصف الثمانينات، حيث خامرت النخبة الطليعية فكرة التركيز على أن الديموقراطيا هي الحل للأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي عانت منها شعوب النصف الجنوبي من القارة الأميركية، في ظل الديكتاتوريات العسكرية.

وما أن همت تلك الشعوب بترتيب أجندتها الخاصة لجعل الديموقراطيا مفتاحا للتقدم، حتى هبت ريح جديدة، لتوجه السفينة الأميركية اللاتينية وجهة مغايرة، إذ جاء صندوق النقد الدولي والبنك العالمي ليقولا إن التقدم هو اقتصاد السوق، القائم على حقيقة الأسعار، والتنافسية، مما يعني أن الدولة يجب أن تتخلى عن دورها كموزع وراع، وتترك السوق لتطبيق منطقها.

الآن بعد عقد ونصف عقد من الزمان، من استسلام أميركا اللاتينية وسائر العالم، لمقولة تحرير الاقتصاد، ها هي النتيجة ماثلة للعيان. حتى المستثمر صوروس يستنكرها، ويقول إن الرأسمالية المتوحشة ليست هي الحل.

على أن أميركا الجنوبية ربحت شوطا مهما في ثنايا ذلك المسلسل، وهو أن الديموقراطيا تكرست فيها على عكس العالم العربي. وأصبح محرما هناك على أي ضابط تلعب برأسه أحلام انقلابية، أن يضمن وجود من يقبل التعامل معه. وعملا بميثاق التزمت به دول القارة، يحرم التعامل مع أي دولة لا يأتي رئيسها من صناديق الاقتراع. وقد لمس ذلك الجنرال أوفييدو، في باراغواي، وأقفلت معه الخط كل دول القارة، بدءا بالدول المجاورة. وسمح له فقط بأن يختار اللجوء في البرازيل بعدما يسلم الأمانة إلى أهلها.

كتب لي منذ انتقال الحكم في هوندوراس في 1985 إلى مدني، هو خوضي أثكونا، أن أحضر في سبع جمهوريات أخرى من أميركا اللاتينية، جرى فيها انتقال الحكم سلميا، من مدني إلى مدني آخر، عبر الانتخابات.

ودرجت بلدان القارة على تنظيم احتفالات بمناسبة تنصيب الرؤساء الجدد تتم بحضور وفود أجنبية، لتزكية العملية. ويدعى المغرب لهذه المراسيم ويحضرها باستمرار على مستوى وزاري. وكنت غالبا ما أجد نفسي الممثل الوحيد لدولة عربية ممثلة على مستوى حكومي، وباستمرار كنت أجد الأمير ضون فيليبي، ولي عهد إسبانيا، حاضرا في تلك الطقوس، في ما عدا تنصيب فوجيموري، في ولايته الثانية المشكوك في أمرها، والتي لم تنته بسلام، حيث حضر ممثلا لإسبانيا الوزير راخوي.

في كل الأحوال كانت المراسيم تتم على نحو متشابه. يسلم الرئيس المنتهية ولايته حمالة الرئاسة إلى الرئيس الجديد، ويخرج الرئيس السابق من القاعة، ويمتطي سيارته الخاصة، ويذهب إلى حال سبيله ليكتب مذكراته، ويحاضر في الجامعات.

تكرس توالي الرؤساء المدنيين المنتخبين، ولكن جاءت متاعب البرهنة على أن الديموقراطيا قادرة على إنتاج الحلول. إن صناديق الاقتراع تعبر عن إرادة الناخبين، لكن الحكم يتسلمه فريق يجب أن يحسن تدبير الشأن العام، أي يحل مشكلة البطالة، وتأهيل الاقتصاد، وتقليص الفوارق مع كوكبة الدول المتقدمة.

وإذا كان غير جائز أن نسلم مع بيلى، (نعم ذلك البرازيلي الأشهر) حينما قال إن الشعوب لا تحسن التصويت، فإنه لا بد أن نفكر لماذا حتى مع الديموقراطيا تستعصي الحلول المرجوة. لماذا لا يكتب للبرامج الانتخابية أن تتطابق مع التدابير، التي يتخذها أو لا يتخذها، الوافد الجديد إلى الحكم.

يمكن القول إن الديموقراطيا تنطوي على العلاج، فمن غش أو تنكر تأتي صناديق الاقتراع بغيره. ومن حظ اقطار القارة أن هذا الحق متاح وقد استعملته. ومرت بنا أمثلة كثيرة لقادة صارحوا شعوبهم بأن زمن المعجزات قد ولى. ولهذا تجد أكثرهم يراهن على الوسطية والاعتدال.

وقد كتب مؤخرا الرئيس السابق للأوروغواي السيد سانغينيتي، أن أوضاع القارة لا تحتمل التبسيط. فليس انتخاب «لولا» ـ عامل التعدين الذي أصبح الآن رئيسا للجمهورية في البرازيل ـ انتصارا لليسار، فهو يعد الشعب بسياسة وسطية، كما أن انتصار أويريبي في كولومبيا ليس انتصارا لليمين، وبنفس القدر فإن سانتيث لوثادا، رئيس بوليفيا ليس ممثلا للنيوليبرالية. إن الشعوب تخامرها أحلام لا حد لها، ولكن النخب يجب أن تجتهد لكي توجد الحلول. وأشد الأعداء فتكا بالديموقراطيا اليوم هو الشعبوية حينما يتحمس الزعماء في التلفزيون، ويعدون بحكومات قوية، ذات قوة سحرية، تمكنها من منح الأرض لكل الفلاحين، والعمل لكل العاطلين.

ولا ينتهي سانغينيتي إلى وصفة محددة، ويلجأ إلى مخرج أدبي، ليس إلا، حينما يقول إن الحل هو أن يسود العقل، والمرجو فقط أن تهب ريح جديدة على ألا تتحول الريح إلى عاصفة.

وزير الانتاج في حكومة أرخنتينا أدلى بتصريح مهول، وقال بفظاظة إن كل من حكموا البلاد هم أولاد زنى.

أما الأديب ماريو فارغاس ليوسا، الروائي الذي ترشح للرئاسة في البيرو أمام فوجيموري الذي دحره في 1990، فإنه ركز على أن الشعبوية توأمة للرشوة. فقد

شاهد في التلفزيون، كما رأينا جميعاً منذ نحو ثلاثة أشهر، كيف أن الجماهير خرجت إلى الشارع في مدينة أريكيبا، مسقط رأسه، لتكسر وتحرق كل شيء، للاحتجاج ضد حكومة الدكتور طوليدو لأنها عزمت على بيع مصنعين للكهرباء للقطاع الخاص. واستنكر ليوسا أن يتزعم الاحتجاج ديموقراطي عريق مثل مانويل غيين عمدة أريكيبا، ومعه منتخبون آخرون، شنوا إضرابا عن الطعام للضغط على الحكومة من أجل أن تتخلى عن بيع المصنعين.

واستسلم الدكتور طوليدو، ـ ماسح أحذية آخر يحكم بلدا في أميركا اللاتينية ـ إلى غضبة الجماهير. ولتلافي انتشار الاحتجاجات توقف البيع، مما يعتبره ليوسا قرارا رومانسيا مضادا للتقدم، وانبعاثا للشعبوية.

يذكر ليوسا ان تفويت بعض منشآت القطاع العام إلى القطاع الخاص ليس معيباً في حد ذاته، ولكن كل إصلاح إذا لم يتم بإتقان تكون مغبته سلبية. ومن ذلك أن فوجيموري سبق أن قام بالتفويت، ولكن في ظل الغموض، ولم يستفد من عمله ذلك إلا مرتشون تقاضوا عمولات، ومقربون من النظام سرقوا ملايين الدولارات. أما الإصلاح في حد ذاته فالغرض منه كان هو تطهير المنشآت وتحديثها، وجعلها تقبل مبدأ التنافسية، مع تقديم خدمات أفضل للجمهور. وبدلا من ذلك تحولت المنشآت المفوتة إلى احتكارات خاصة، استفادت منها شخصيات بعينها مرتبطة بالنظام، وهو يرى أن ما حدث في البيرو انهزام أمام الشعبوية، واعتبر البلد الوحيد الذي أفلت من هذه الآفة هو الشيلي، المثال الوحيد لنجاح تحديث الاقتصاد وللشفافية والنمو الحقيقي والواعد. المعضلة سبق لكارضوزو، الرئيس البرازيلي، أن لخصها في مؤتمر مدريد في مايو الماضي، للدول الأميركية اللاتينية ودول الاتحاد الأوربي: نحن نتفهم أن تكون الدول الكبرى منشغلة بمسألة الإرهاب، لكننا نخشى كثيرا من أن يتحول الانتباه من «أجندة الأمل» ـ التي داعبت شعوب أميركا اللاتينية ـ لحساب «أجندة الأمن» التي تشغل الدول الكبرى بعد 15 سنة من اللقاء الأول العربي ـ اللاتيني لعل الموضوع الآن هو كيف تتأهل الديموقراطيا لكي تعطي حلولا؟