لا .. ليست قصة قطط وفئران!

TT

لا شيء يوازي حماسة هانس بليكس ومحمد البرادعي في اقتفاء اثر اسلحة الدمار الشامل في العراق إلا حماسة جورج بوش ودونالد رامسفيلد في اقتفاء أثر اي خطأ يرتكبه النظام العراقي فيسمح بمباشرة الحرب ضده.

وهكذا لم يكن غريبا ان تنشر وسائل الاعلام يوم الاثنين الماضي، اخبار الاستعدادات لعمل المفتشين جنبا الى جنب مع اخبار الاستعدادات الاميركية لتوجيه ضربة عسكرية الى النظام العراقي. ففي حين وصلت طلائع المفتشين الدوليين الى العاصمة العراقية، حيث بدأت المحادثات التمهيدية لتنظيم عمليات البحث والاستقصاء، التي يقول بليكس انها قد تستمر ستة اشهر، نقلت صحيفة «نيويورك تايمز» عن مسؤولين اميركيين ان البيت الابيض باشر استعدادات على المستويين العسكري والديبلوماسي لشن حرب محتملة ضد العراق.

طبعا الحديث عن الاستعدادات العسكرية ليس جديدا. لكن الصحيفة المذكورة اوضحت ان المقصود هنا، هو تحديد دور الحلفاء في اي عملية ومنع الدول المجاورة للعراق مثل تركيا واسرائيل من القيام بتحركات ميدانية منفردة. حيث يتخوف المخططون في واشنطن من قيام أنقرة بهجوم، على خلفية حساباتها الكردية. ومن قيام اسرائيل بتوسيع عملياتها ضد الفلسطينيين.

كذلك تتركز الجهود الديبلوماسية على ايجاد الوسائل الكفيلة بالحصول على دعم الامم المتحدة للهجوم على العراق. وفي هذا السياق لا تكتفي واشنطن بالبنود التعجيزية تقريبا، التي وردت في القرار رقم 1441 الصادر عن مجلس الامن، بل تسعى الى توظيف كل الاحتمالات في هذا الاطار.

ولا ندري اذا كانت واشنطن قادرة في النهاية على تصنيف نشاط المضادات الارضية العراقية التي تتصدى للمقاتلات الاميركية والبريطانية فوق مناطق الحظر شمالا وجنوبا، وكأنها تقع في اطار خرق القرار الدولي، بما يسوغ شن الهجوم على بغداد. لكن كان من الواضح اول من امس ان التركيز على هذه النقطة يشكل محاولة اميركية اخرى لايجاد منفذ الى الحرب.

طبعا ان اثارة هذه النقطة قد تشعل جدلا طويلا ينخرط فيه الفرنسيون والروس من جديد، كما حصل عشية صدور القرار 1441. ومنطلق هذا الجدال خلاف في النظر الى عمليات التحليق فوق منطقتي الحظر، ففي حين يريد الاميركيون ان ينظر الى نشاط المقاومات الارضية العراقية للطيران الاميركي والبريطاني وكأنه يشكل تصديا او مقاومة للامم المتحدة، يمكن اعتباره مدخلا الى تشريع «العواقب الوخيمة»، التي اشار اليها القرار الاخير الصادر عن مجلس الامن، يقول العراقيون ان لا علاقة للامم المتحدة بالنشاط الجوي فوق مناطق الحظر التي اقيمت اصلا بقرار اميركي وبريطاني. وهو ما يجعل عمل المقاومات الارضية حقا مشروعا ودفاعا مفهوما عن النفس.

طبعا لم يستعر النقاش بعد حول هذه النقطة رغم انه من المعروف ان واشنطن ولندن وسعتا عمليات القصف منذ ثلاثة اشهر، في اطار خطة واضحة تهدف الى تدمير المقاومات الارضية العراقية تمهيدا لاي هجوم شامل يريد الاميركيون تنفيذه. لكن الجدال حول هذه المسألة قد يبدو هامشيا الآن، لأن هناك رهانات اميركية على ان القرار 1441 يحتوي على بنود خانقة وشروط صعبة تكفي بذاتها للدخول في العمل العسكري الذي يجري الاعداد له على قدم وساق.

وفي اي حال، ان الفقرة الثامنة من القرار 1441 تنص على انه لا يجوز للعراق اتخاذ اجراءات او التهديد باتخاذ اجراءات معادية ضد دولة عضو في الامم المتحدة، تسعى لتنفيذ اي قرار لمجلس الامن. وفي حين يقول بعض اعضاء مجلس الامن ان القرار الاخير لا يشمل مناطق الحظر، يقول المتصلبون في الادارة الاميركية بالعكس وتتمسك وزارة الدفاع الاميركية بهذا التفسير. وقد اعلن وزير الدفاع دونالد رامسفيلد بداية الاسبوع انه اذا واصل النظام العراقي اطلاق النار على المقاتلات الاميركية والبريطانية فإن هذا سيشكل انتهاكا لقرار مجلس الامن. لكن الامين العام للامم المتحدة كوفي انان يقول «ان المناقشات التي جرت في الامم المتحدة اوضحت اننا يجب ان نبحث عن شيء جاد وله مغزى وليس عن ذرائع لكي نفعل شيئا»!

وبرغم وجود عناصر تعجيزية في القرار الذي وضع موضع التنفيذ بداية هذا الاسبوع، فان هناك اوساطا في البنتاغون، تنظر اليه بكثير من الارتياب، وتعتبره مدخلا سيؤدي الى ضياع الفرصة الملائمة للاطاحة بنظام صدام حسين. وفي هذا السياق يقول ريتشارد بيرل رئيس لجنة سياسة الدفاع الاستشارية، ان اميركا في اطار عمل المفتشين، لن تكون قادرة على فعل اي شيء اذا لم يتعاون صدام حسين مع المفتشين وهؤلاء تنقصهم الفعالية ويصبحون عاجزين تماما عندما تبدأ لعبة القط والفأر التي يجيدها النظام العراقي.

ومن هذه الزاوية، وقياسا بأعمال التفتيش التي كانت تجري سابقا في العراق وتوقفت عام 1998، يمكن الافتراض ان بليكس بدأ هذا الاسبوع مهمة مستحيلة هدفها خلق مساحة من التعامل الموضوعي والصادق بين القطط والفئران.

وليس من الواضح فعلا اذا كانت قصص «القطط والفئران» ستتكرر، رغم كل الدعوات التي وجهت الى صدام حسين ودعته الى التعامل جديا مع عمليات التفتيش، وعدم المراهنة على التجاذبات داخل مجلس الامن وعلى عامل الوقت. وفي هذا السياق كان لافتا ان يقول بليكس في حديث الى صحيفة «الموند» الفرنسية يوم الجمعة الماضي «ان اي تأخير في وصول المفتشين الى المواقع الحساسة سيكون خطيرا (...) ان تأخير نصف ساعة في الوصول الى الموقع سيكون كافيا لاخفاء ادلة حاسمة (...) لا يمكنك طبعا ان تخفي سلاحا ضخما او معدات كبيرة في نصف ساعة. لكن يمكنك اخفاء وثائق او انابيب اختبار».

ولأن بوش يسهر فعلا على كل تفصيل قد يساعده في توجيه الضربة، لم يتردد عشية وصول المفتشين الى بغداد، في القول يوم الاحد الماضي، ان اي تصرف عراقي يعطل اعمال التفتيش مثل انفجار اطار سيارتهم بطريقة تثير الشك بهدف تأخيرهم، ومثل قيام تظاهرات او افتعال ازدحام في الطرق لن يقابل بأي تسامح على الاطلاق.

وفي هذا السياق تبرز الصحف الاميركية بوتيرة ملحوظة العراقيل التي كان المفتشون في السابق يصطدمون بها. حيث قيل انهم ابلغوا في حالات كثيرة ان الاشخاص الذين يريدون مقابلتهم وطرح الاسئلة عليهم غير موجودين، او انهم سافروا الى الخارج، او ماتوا في حوادث اصطدام، كما ان الوثائق التي قدمت كانت غير كاملة او تم التلاعب بها. وان غرف المفتشين كانت مزروعة بأجهزة التنصت، بغية معرفة الامكنة التي يريدون التوجه اليها سلفا.

وقد ابرزت صحيفة «كريستيان ساينس مونيتور» يوم السبت الماضي، شهادة من مفتش سابق في فريق «اونسكوم» يدعى ديفيد فرانس، قال فيها انه كان على المفتشين، احيانا، بعد ان يقولوا الى اين يريدون الذهاب ان ينتظروا وصول السائق الذي غالبا ما يأخذهم في رحلة التفافية حول بغداد لتضييع الوقت. وانه وصل الامر الى حد منع المفتشين مدة اربع ساعات من دخول كلية الطب البيطري وهذه مدة كافية لاخفاء الادلة.

من خلال هذا كله يمكن فهم دقة المهمة التي بدأها المفتشون في بغداد. وهذه ليست في النهاية قصة مطاردة القطط للفئران التي لا تعرف نهاية، لكنها قصة خانقة بالنسبة الى بليكس الذي لن يكون في وسعه ان يأخذ نفسا. ليس لأن مهماته عسيرة ووقته ضيق، بل لأنه يعرف تماما ان امورا كبيرة ستترتب على نتيجة مهمته. فاذا تبين ان صدام كاذب ويخفي اسلحة دمار شامل فتلك مصيبة واذا تبين ان بوش كاذب وصدام لا يملك هذه الاسلحة فالمصيبة اعظم.. ربما لهذا قد يكون أُفهم عندما زار البيت الابيض عشية صدور القرار 1441، انه لا يذهب الى بغداد لاعطاء صدام شهادة حسن سلوك، بل لاستصدار قرار بإدانته وهذه مصيبة أدهى!