التاريخ قنبلة انشطارية موقوتة

TT

اثارت تصريحات الرئيس الجزائري الاسبق أحمد بن بلة في «الجزيرة» ردود فعل بعضها موضوعي ومعظمها متشنج كاد يصبح سبابا علنيا، اهميته انه كشف للكثيرين خلفيات عقائدية واحكاما مسبقة كانت مدفونة في الصدور او حبيسة الخزائن الحديدية، ولكنها تحكمت، كما يتحكم كل ما هو كامن في العقل الباطن، في تصرفات خارجية ومواقف معلنة كان بعضها احيانا يستعصي على الفهم.

ولعل كثيرين فهموا اليوم اكثر حقيقة الصراع الذي عرفته الجزائر المستقلة بين الاتجاهات التي تتمسك بالانتماء العربي الاسلامي والاتجاهات الاخرى التي تتمسك بمفهوم لائكي يتناقض مع الاتجاه الاول الى حد العداء المستحكم.

ولقد استعرضت جوانب تاريخية في سلسلة «الزلزال»، ثم في سلسلة «تأملات على عتبة قرن يحتضر»، واحاول اليوم باختصار توضيح الامر من بعض جوانبه، على الاقل لأفوت الفرصة على من يحاولون تلويث كل ما هو رائع في تاريخ الامة، ومن بينها الثورة الجزائرية، التي كانت وستظل اهم العلامات المضيئة في حياة الأمة.

لم تكن الثورة الجزائرية نزهة كشفية في يوم ربيعي ولكنها كانت تتويجا عنيفا لمقاومة شعبية شرسة، لم تتوقف منذ الاحتلال الفرنسي للجزائر في 1830، وكان ثمنها، خلال نحو قرن وثلث، اكثر من سبعة ملايين، ويقال تسعة ملايين، كان منهم مئات الآلاف حصدهم الرصاص وحراب البنادق وسكاكين الفرقة الاجنبية وقنابل النابالم، بينما قضى آلاف آخرون نحبهم نتيجة للاوبئة والمجاعات والامراض المستوطنة.

فقد كان الاستعمار الفرنسي استعمارا استيطانيا، وكان التقتيل الجماعي Genocide بالتالي قاعدة عامة في التعامل مع الجزائريين، وصلت الى حد حشد المئات في مغارات تشعل نيرانا كثيفة على مداخلها، بحيث يموت اختناقا من لم يمت احتراقا عند محاولته الخروج (وكل هذا ثابت بالاعترافات المسجلة للضباط الفرنسيين).

وكانت قمة الوحشية الفرنسية احداث مايو/ أيار 1945، حيث اطلق الرصاص على التظاهرات السلمية للشعب الجزائري، الذي خرجت جموعه تحتفل بالنصر على المانيا الهتلرية، وهو نصر شارك ابناء الجزائر في انتزاعه بأشلائهم وبدمائهم.

وكانت حصيلة القمع اكثر من خمسة واربعين الف شهيد مدني، اثبتت مأساتهم انه لا مجال للتعامل مع العدو الا بالقوة، وهكذا برزت من رحم الحركة الوطنية شبيبة مؤمنة اخذت على عاتقها قيادة الجزائر على طريق الثورة المسلحة.

ولن ادخل في التفاصيل التي تحتاج الى مئات الصفحات، بل اكتفي بالقول ان الثورة اندلعت في اول نوفمبر 1954بهدف واضح محدد هو «اقامة الدولة الجزائرية الديموقراطية الاجتماعية ذات السيادة في اطار المبادئ الاسلامية، وتحقيق وحدة شمال افريقيا في اطارها العربي الاسلامي».

كان النضال شرسا وعنيفا، باعتراف الجنرال شارل دوغول نفسه، وكانت الوحدة الوطنية هي السبيل الرئيسي لتحقيق النصر على عدو يستند الى جبروت الحلف الاطلسي والى شرعية دولية منتحلة، تزعم بأن الجزائر قطعة من فرنسا، وبالتالي فإن قضيتها هي شأن فرنسي داخلي.

والتفت الجماهير العربية حول الشعب الجزائري، تشد من ازره وتدعم جهاده في اول حرب شعبية تشهدها عصور الصراع مع الاستعمار، كان شعارها «الله أكبر».

وكان الانضباط الثوري من اهم ضمانات النصر على العدو، فلم يكن مسموحا بأي اختلافات تخل بوحدة الصف او بهيبة القيادة او: «النظام»، بالتعبير الشعبي.

النظام يملك كل شيء ويتخذ كل القرارات، والجميع مطالبون بالتنفيذ بدون مناقشة او مراجعة او تردد (وهنا نفهم لماذا كان اعتماد نظام الحزب الواحد بعد استرجاع الاستقلال هو التطور الطبيعي لنضال مرحلة الجهاد الاصغر).

وذهب «النظام» بعيدا في مجال تحقيق الانضباط الثوري، والى درجة ان بعض من خالفوا قرار الثورة بالامتناع عن التدخين في مرحلة معينة عوقبوا بالاعدام، وان بعض من تعاطوا «النشوق» عوقبوا بجدع الانف.

وحقيقي ان تلك العقوبات كانت حالات محدودة، ولكنها كانت دليلا على تشدد «النظام» في التعامل مع العصيان وحماية الوحدة الثورية، وكان ذلك اهم الاسلحة في مواجهة العدو الذي يمتلك كل انواع الاسلحة الفتاكة، واهمها ثغرات الثورة نفسها.

غير ان اروع ما عرفته الثورة كان رد فعل من كان يتعرض لتنفيذ عقوبة ما.

ومن القصص التي تروى في هذا الشأن ما حدث مع المجاهد عباس لغرور (وهو واحد من اثنين مثلا جيش التحرير في أحد اللقاءات العربية بالقاهرة، وكان الثاني هو العقيد هواري بومدين).

فقد حدث، اثر خلاف ما، ان اصدر «النظام» حكما باعدام المجاهد الكبير، وفي فجر يوم تنفيذ الحكم اقتاده ملازم وعدد من الجنود بدون قيود الى مكان الاعدام.

ويقترب الملازم الشاب من اسيره ليتساءل بصوت متهدج والدموع في عينيه:

«اخي.. لم نعرف عنك خيانة ولا جبنا، فبأي حق تقتل؟».

ويزأر المجاهد الكبير في وجه الضابط الصغير:

«لقد اصدر لك النظام الأمر باعدامي فافعل ذلك واغلق فمك لأن غير ذلك ليس من شأنك».

وذهب الشهيد الكبير للقاء ربه راضيا مرضيا.

وعندما استرجعت الجزائر استقلالها اعيد الاعتبار الى كل من اعدموا نتيجة خلافات سياسية او خروج عن اوامر النظام. وهكذا يجد الزائر لمقبرة الشهداء بالعالية في العاصمة الجزائرية قبور محمد العموري وعباس الغرور وعبان رمضان وغيرهم بجوار قبور الامير عبد القادر ومراد ديدوش والعربي بن مهيدي (الذي قتلته فرنسا وهو اسير لديها وادعت بأنه انتحر) وكذلك قبور هواري بومدين ومحمد بوضياف وفرحات عباس (أول رئيس للحكومة المؤقتة، والذي اختلف مع قيادة مرحلة الاستقلال ابتداء من بن بلة الى بومدين، ومات على فراشه).

وكنت اقول دائما بأن ذلك هو المنطق السليم للتعامل مع مآسي مرحلة الثورة، التي كانت جزءا من الثورة نفسها، ويجب ان يدرك الوطنيون بأن مخلفاتها تشبه قنابل انشطارية انفرطت من عقد قنبلة عنقودية واختلت ساعة توقيتها، فلا يعرف المرء متى وتحت اي ظروف يمكن ان تنفجر.

وقلت في العديد من الكتابات بأنه ليس من حق ابناء الجيل الذي عاش الثورة او عاش على مشارفها محاولة كتابة تاريخ الثورة، لمجرد انهم سيعجزون عن الالتزام بالموضوعية العلمية في الحديث عن وقائع كانوا جزءا منها وارتبطوا بها عاطفيا ووجدانيا، وبالتالي فإن التخلص من الذاتية يتجاوز مقدرة البشر.

ولكنهم، على النقيض من ذلك، مطالبون بتسجيل كل ما عاشوه او سمعوه من مصادره الاصلية ليكون المرجع الرئيسي لأجيال اخرى، بعيدة زمنيا عن الاحداث والوقائع، وهذا هو ضمان النزاهة والموضوعية في كتابة تاريخ الثورة.

وشهادات القادة على الاحداث التي ساهموا فيها واجب وطني، يمثل التهاون فيه خيانة لأرواح الشهداء، غير ان هناك قضايا يجب ان تحصر مرحليا في اضيق نطاق ممكن.

لكن الذي حدث في مرحلة الانتكاسة ان اصواتا ارتفعت بصيحات، تصور البعض انها صيحات حق، ولكن معظمها كان صيحات مغرضة نتج عنها باطل مؤكد.

وهكذا اخذ البعض يعيب على الجزائر عدم اهتمامها بكتابة تاريخ الثورة، بكل تفاصيله واحداثه، وبدا هذا لبعض البسطاء مطلبا شرعيا ومبررا للوم القيادات الجزائرية على تقصيرها في هذا الميدان.

وربما كان هناك نوع من القصور ولكن لم يكن هناك تقصير، بل كانت هناك ارادة واعية في اعطاء الفرصة لاندمال الجروح والتئامها، خصوصا ان بعض من تسببوا فيها او تعرضوا لها ما زالوا على قيد الحياة.

واتصور ان تصريحات الرئيس بن بلة مؤخرا كانت رد فعل على مواقف لتيارات فكرية حاولت خلق التناقض بين مؤتمر الصومام 1956 (الذي كان نقلة نوعية في مسار الثورة، ولكنه كان ايضا مؤتمرا خلافيا لم يحقق اجماعا مطلقا حول كل نتائجه) وبين بيان اول نوفمبر الذي يشكل العقد المعنوي بين كل المجاهدين.

ووصل الامر بالبعض الى حد التقليل من اهمية بيان نوفمبر لفائدة ميثاق الصومام، لمجرد ان الاول يؤكد على قيام الدولة المستقلة في اطار المبادئ الاسلامية، وهو ما ينفر منه التيار اللائكي الذي يناصب الرئيس الاسبق العداء.

وهكذا اصبح الصومام بالنسبة للبعض مادة للمتاجرة او للانتقاص من قدر هذا والتضخيم في دور ذاك، ثم تحول الامر الى محاولة افتعال شرعية تاريخية تبرر الخروج عن الاجماع الوطني او التناقض مع المصالحة الوطنية.

ويبقى ان موقف الرئيس بن بلة لم يكن مفاجأة لمن يعرفون الرجل، الذي كان واحدا من التسعة التاريخيين، وأحد اثنين ما زالا على قيد الحياة منهم، مع الأخ حسين آيت أحمد.