قراءة في خطاب الأزمة

TT

يسود الساحة السياسية والثقافية العربية اليوم احساس جارف بأن الأمة على حافة منعرج حاسم في تاريخها، بدأت الكثير من مؤشراته تلوح للعيان، تنذر في مجملها بالخطر، مهما كان الاختلاف بين الكتاب والمحللين في المواقف والاستنتاجات المترتبة على هذه التطورات النوعية.

ومن ابرز هذه المؤثرات الضربة القادمة للعراق التي لم تعد مدار شك ولا جدل مهما كانت التطمينات الصادرة من بعض الجهات العربية، وما ينجر عن هذه الضربة من تأثير حاسم على اوضاع المنطقة واطار التحالفات الدولية داخلها، بعد ان بدا من الواضح ان الادارة الامريكية عازمة على فرض تغيرات كثيرة على التوازنات الاقليمية وعلى الاوضاع الداخلية للبلدان العربية، منذ ان بلغ تدخلها حد المطالبة بتغيير البرامج التعليمية وخطب الجمعة والمقالات الصحفية، بل وحتى المسلسلات التلفزية.

وعلى الجبهة الفلسطينية، غدا من الجلي ان الادارة الامريكية انتقلت من دور راعي عملية التسوية الى دور الشريك الكامل في مسار الصراع باعتباره معتركا اساسيا من مسارح «الحرب العالمية ضد الارهاب»، مما يقتضي توطيد التحالف مع الحكومة اليمينية المتطرفة في تل ابيب لتفكيك بنية المقاومة الفلسطينية وفرض الرؤية الامريكية للتسوية انطلاقا من اعادة بناء السلطة الوطنية الفلسطينية بغية تأهيلها للشراكة الامنية والاستراتيجية مع الولايات المتحدة واسرائيل شرطا اول لقيام دولة فلسطينية منقوصة السيادة.

وليس يهمنا في هذا الحيز تفصيل القول في رصد هذه المؤشرات التي يكثر الحديث حولها في ايامنا، وانما اردنا الوقوف عند الخطاب العربي الذي تناولها من خلال مراجعة عشرات النصوص والمقالات التحليلية التي نشرتها الصحف والمطبوعات العربية في الآونة الاخيرة. وبدا لنا ان هذا الخطاب يتوزع في الغالب الى منحيين: ينزع احدهما الى النهج التجييشي العاطفي باستخدام لغة الصدام والتعبئة والمقاومة، وينزع ثانيهما الى مسلك التحليل الواقعي والاستقراء الاستشرافي البارد الذي يفضي الى النقد الذاتي والمطالبة بصياغة الموقف في ضوء الموازين القاهرة.

ولئن كان الموقف الاول هو الغالب على الشارع العربي الذي وصلت فيه النقمة على الولايات المتحدة حدا اقصى غير مسبوق، فإن الموقف الثاني ينحصر في بعض وجوه النخبة الفكرية المرموقة، التي تبدو اكثر اطلاعا على دوائر الفكر الاستراتيجي الغربي واكثر عمقا في تحليل الاوضاع وصياغة المواقف.

وقد ارتأينا حصر هذه القراءة في خطاب الأزمة في المسلك الواقعي النقدي لا غضا لطرف عن اخطاء وهنات النهج التعبوي التجييشي الذي هو في نهاية التحليل احدى ادوات المقاومة المشروعة ان تقيد بضوابط العمل السياسي الناجع وتسلح بالرؤية الاستشرافية السليمة وهي شروط كثيرا ما تنقصه. وانما حصرنا الاهتمام في الخطاب الواقعي من حيث كونه اصلب بناء نظريا، واكثر تأثيرا في النخبة الفكرية الحريصة احيانا على القطيعة مع شعارات الحشود الشعبية.

ويتمحور هذا الخطاب الواقعي النقدي حول ثلاث افكار مترابطة عضويا، وان كانت تصدر عن خلفيات متباينة.

اولها: ضرورة التقيد بتحولات ومنطق النظام الدولي الجديد، المتسم بالاحادية القطبية والهيمنة الامريكية، مما يفرض على القرار العربي ضوابط وقيودا، كل خروج عنها هو عمل انتحاري، في مرحلة ينفرد فيها العرب من بين كل الامم والبلدان (بما فيها الاكثر نموا وتقدما) بالنزوع الراديكالي ازاء واقع تحكم الولايات المتحدة في الرهان الاستراتيجي العالمي. ومن هنا يغدو الخيار الوحيد المتاح هو المناورة الذكية والبناءة وفق الهوامش الضيقة التي يتيحها منطق القطبية الاحادية.

ثانيا: افلاس خطاب الهوية والخصوصية الحضارية، الذي لم تجن منه الامة إلا مزيدا من الهزائم والتجزؤ والانهيار. ويذهب البعض الى حد المطالبة بقبر النظام الاقليمي العربي وتفكيك مؤسساته، واعادة النظر في المطمح الوحدوي من منطلق الاكتفاء بالمعادلة الوطنية وتكريس الولاء المحض للاوطان التي كنا نسميها اقطارا.

ثالثا: ضرورة الانسجام وحقائق الكونية الجديدة وما تقتضيه من قلب لأوضاعنا المجتمعية والثقافية، باعتبار ان ديناميكية العولمة ليست مجرد حركية اقتصادية، وانما لها منطقها الداخلي على الصعد الفكرية والمجتمعية والتشريعية. ولا يمكن للعرب ان يندمجوا في الحداثة الثانية دون دفع ثمن هذه الانقلابات العميقة التي يرفضونها بعلة الدفاع عن الذات والخصوصية، وبتوهم القدرة على بلورة نمط من التوفيقية نعتتها صديقتنا سوسن الابطح بغير الموفقة.

ولا يتسع المقام لقراءة نقدية مستفيضة في هذه الافكار الثلاث التي تشكل حجر الزاوية في الخطاب الواقعي النقدي، وانما نقدم هنا ملاحظات مقتضبة، قد تكون لنا عودة اليها في مناسبة قادمة. بخصوص المعادلة الاستراتيجية الدولية، لا مناص من التسليم بواقع الهيمنة الامريكية ونظام الاحادية القطبية، بيد ان السؤال ليس الاعتراف بهذا الواقع او انكاره، وانما بلورة الموقف الفعال ازاءه من منطلق استشرافي لا يكتفي بالانثناء السلبي لموازين مختلة (فتلك معادلة سلبية متاحة)، وانما بلورة الاستراتيجيات والآليات العملية للاستفادة من خطوط التصدع في خارطة النظام الدولي الجديد لصالح المواقف القومية، وهو المسلك الفعال الذي تنتهجه قوى دولية واقليمية عديدة لا تتهم بالراديكالية الانتحارية.

اما خطاب العفوية والخصوصية الحضارية الذي يعلن افلاسه من منطلق خطاب الكونية الجديدة، فإما ان يعني خيارات ايديولوجية وسياسية بعينها فليس ثمة اشكال، او يعني الثوابت الثقافية ومحددات الانتماء الجوهرية فتلك من صميم الاختلافات الضرورية والمتجذرة بين الفضاءات البشرية المتمايزة من حيث الخلفيات اللغوية والتاريخية والتراثية، ولا نخال احدا يعتقد وهم التنميط الثقافي الكلي، حتى داخل الفضاء الحضاري الواحد، فكيف داخل فضاءات متنوعة لم تزدها ديناميكية العولمة إلا تجزؤا واختلافا، في مرحلة تزايدت وتيرة الانفصام بين آلية توحد السوق الاقتصادية وحركية النكوص للذات والاحتفاء بالهويات المتنوعة.

اما الكونية الجديدة، فليست اكثر من اطار كلي مجرد، اما ان يفهم في شكل قيم انسانية عامة لا اختلاف حولها في المبدأ او في صيغ ونماذج عينية هي بالضرورة وفي نهاية التحليل خيارات مجتمعية وحضارية خصوصية وان انعقدت لها الغلبة بحكم موازين القوة، كما سيتبين لاحقا.