الاحتماء بالسور أم التخلص منه؟

TT

خلال الأسابيع الثلاثة الماضية قمت بزيارة اثنين من أهم أسوار العصر الحديث ـ سور برلين في المانيا و«السور العظيم» في كوريا، والذي يعرف أيضا بالمنطقة منزوعة السلاح التي تفصل شمال كوريا عن جنوبها. يطلقون عليه السور العظيم لأن النادر جدا من الأنشطة البشرية وقع في هذا المنطقة الممتدة على طول 155 ميلاً خلال الأعوام الخمسين الماضية، إلى حد ان غاباتها وأنهارها أصبحت واحدة من أغنى المحميات الطبيعية في العالم، حيث تنتشر فيها الغزلان والنسور ذات الرؤوس البيضاء والفراشات بأنواعها. وبالفعل فإن مرافقي الكوري، وهو طاه سابق في جيش كوريا الجنوبية، حدثني بإسهاب حول تجربة للوحدة العسكرية التي كان يعمل فيها، أثناء تكليفها ذات يوم بالعمل في تلك المنطقة، عندما أمسكت بخنزير بري كان قد فقد أحد أقدامه بسبب لغم أرضي يبدو انه انفجر بالقرب منه.

حينها قام الجنود بسلخ جلد الخنزير وتدخينه لثلاثة أيام، فوق نار هادئة بداخل وعاء فارغ، قبل التهامه. حيث يتذكر مرافقي: «لقد كانت ألذ وجبة استمتعت بها طوال حياتي».

على أن محور حديثنا هنا ليس الطعام. بل إن زيارة هذه المواقع والاقتراب منها إلى هذا الحد تدفع المرء إلى إجراء مقارنة بين واقع حال ما يعتبر أعظم أسوار عالم اليوم ـ سور برلين، الذي تحطم، والسور الكوري، الذي ما يزال قائما، وسور الخوف في منطقة الشرق الأوسط، والذي تقوم إسرائيل بتشييده لعزل نفسها عن العرب.

روعة سور برلين تتمثل في صعوبة عثور المرء على بقايا من أثره بعد اليوم، وكل ما هناك عبارة عن ممر رمادي يتسلل عبر برلين الموحدة. كان ذلك السور قد تحطم بشكل سلمي لأن ميخائيل غورباتشوف قرر عدم اللجوء للعنف لمقاومة رغبة سكان المدينة في الالتحاق بعالم الحرية وفي إعادة توحيد بلادهم. لكن سكان برلين في الواقع هم الذين هدموا السور ـ من جانبيه. فالأسوار التي تدمرها الشعوب يبدو انها لا تقوى على الصمود. واليوم ها هي برلين، وبدلا من تعريفها بالسور، تشتهر بمشاعر الحرية السائدة في نفوس أولئك الذين دمروا السور ـ والتي تمثلت في ملامح المدينة المعمارية الجديدة وفي متاحفها وحدائقها.

نفس الروح لا تتوفر للسور الأخضر الذي يحدد المنطقة منزوعة السلاح. فهذا السور قائم طوال الاعوام الخمسين الماضية منذ الحرب الكورية، لأن الكوريين الشماليين لا يستطيعون العيش بدونه. ويدرك كيم جونغ إيل، الزعيم الكوري الشمالي، انه بدون ذلك السور الأخضر الذي يحمي نظام حكمه من إرادة شعبه ـ وبدون معسكرات الاعتقال والألغام الأرضية والجيش الهائل ـ فإن نظام كوريا الشمالية سيذوب مع الجنوب كسد متحطم.

ما يثير الإعجاب في تجربة كوريا الجنوبية انه بعد عقود عديدة من الهوس بالسور الكوري، الا انها أبت أن تربط مصيرها به بعد اليوم. فقد قرر الكوريون الجنوبيون التركيز على مياه البحر التي تربطهم بالعالم، بدلا من السور الذي يفصلهم عن شمال البلاد. وبحشد مجمل طاقاتهم في التجارة والصادرات تمكنوا من جعل كوريا الجنوبية تتغلب عمليا على الأزمة الاقتصادية الآسيوية التي عصفت بتلك المنطقة خلال عام 1997، إلى درجة ان بلادهم أصبحت تحتفظ برابع أكبر احتياطي من النقد الخارجي في العالم ـ وهذا إنجاز رائع بكل المقاييس.

وهنا يكمن السر الحقيقي وراء قوة كوريا الجنوبية. فعندما صبت اهتمامها على السور وعلى كوريا الشمالية، لم تكن تتميز كثيرا عن الشمال، فقد كانت كوريا الجنوبية تعيش تحت ظل العسكر، تماما كما هو حال الشمال، وحشدت كوريا الجنوبية قوات عسكرية هائلة، تماما كما فعل الشمال. كانت هناك حالة من التماثل الفج. لكن ما ان شعر الجنوب بالثقة من أنه قد يحقق الانتصار في حالة اندلاع الحرب، وبالرخاء الذي يسمح بنماء تجربته الديمقراطية، حتى اختفت حالة التوازن السابقة. وباتت شبه الجزيرة الكورية على أعتاب عهد جديد، حيث تشير معظم سياسات الجنوب إلى الاستعداد لإعادة توحيد الشطرين وفقا لمواصفات الجنوب. وقد تمثل هذا في الطريق السريع ذي الخطوط الأربعة الذي ينطلق من مدينة سيول وحتى المنطقة منزوعة السلاح ـ طريق مغلق ينتظر المضي قدما متى حدث انهيار نظام كوريا الشمالية المحتوم.

وبينما لم يسمح الكوريون الجنوبيون للحرب أو للمنطقة منزوعة السلاح أن تكون عنوانهم، أعتقد ان العرب والفلسطينيين التزموا بعكس ذلك لوقت طويل. لقد توفر لديهم غورباتشوف آخر، هو أنور السادات، الذي سعى لتحطيم سور العداء مع إسرائيل عندما أعلن: «انه لا مجال للحرب بعد اليوم» ـ ودعونا نتجه صوب شيء ما آخر. لكن العديد من العرب امتنعوا عن فهم رسالة السادات. ولم يفهموا ان سور العداء الذي أقاموه ضد إسرائيل، وأخيرا ضد أميركا، تحول إلى سور يعيق العرب عن ركب التطور. وطالما ظل سور العداء العربي قائما، فإن أغلبية القوى الإسرائيلية المعتدلة ستتضاءل وسيتعزز موقف الأقلية المتشددة.

لقد تحولت العلاقات الإسرائيلية ـ الفلسطينية اليوم إلى ساحة قتل ـ لغياب منطقة منزوعة السلاح. وها هم الإسرائيليون الآن يسعون لحماية أنفسهم ببناء سور حقيقي من الخرسانة. لكن إقامة سور بلا حدود، يقبله الطرفان، عمل لن يوفر الحماية أبدا.

في متحف المنطقة منزوعة السلاح بشبه الجزيرة الكورية، يشيرون إلى تلك المنطقة باعتبارها «آخر أسوار العالم». هل حقا يبدو ذلك واقع الحال؟

* خدمة «نيويورك تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»