العيد في الأندلس

TT

لقد حدث معي مراراً ما يشعر به كل عربي عندما يدخل مسجد قرطبة عاصمة الغرب الاسلامي لستة قرون، لكني في هذه الزيارة الرمضانية قررت سلفاً ألا أترك لخوالجي حرية الجمحان، وان أُحكم العقل وانظر للأمور من زوايا اخرى غير الغضب على اقامة كنيسة في وسط الجامع، او التأسف على ماض سالف. وبعيداً عن تذكر تواريخ رمضان الاندلسية مثل غزوة طريف بن مالك الاستطلاعية عام واحد وتسعين للهجرة، ومعركة الحسم في رمضان العام التالي بقيادة طارق ابن زياد، ودخول موسى ابن نصير لبلدة ماردة المحصنة في عيد الفطر للعام الثالث على الفتح، وهكذا... قلت لنفسي اذا كان ولا بد من التذكر فليكن حول اسباب اختلاف القوم وضياع الاندلس، او حول ثبات هذه الآثار الاسلامية الخالدة في الاندلس، ومن الذي حرسها ويعيد اعمارها الآن، وفي ضوء ذلك هل يمكن القول ان الاندلس ضاعت؟ وماذا عن اللواتي لم يضعن، هل وضعهن أفضل أم اسوأ؟ وما هي أبرز سمات وأسباب النجاح العربي في الاندلس أصلاً؟

هكذا تجولت في الاندلس وزرت جامع العاصمة وعشرات الجوامع القديمة التي تحولت منذ خمسمائة عام الى كنائس، من دون ذرف دمعة واحدة، وذلك على عكس الزيارات السابقة التي تضيق الصدر رغم ما يشعر به العربي بأنه فعلاً في بلاده المثالية.

قبل خمسة عشر عاماً كان الزائر يعرف انه دخل مقاطعة الاندلس بدون رؤية اشارات دالة، فلون وحالة الشوارع يرثى لها وتتميز عن بقية اسبانيا تماماً. كان الفقر لا يزال يدق الاقليم الذي صمد على شكل مملكة غرناطة لمائتين وخمسين سنة بعد سقوط دول الطوائف التي تلت سقوط الدولة الاموية الاندلسية. ولم يتحسن حال الاقليم الا بفضل نجاح ابناء الاندلس في الانتخابات وتوليهم رئاسة الوزراء فضخوا الاموال وحصلوا الدعم الاوروبي لإقليمهم ونهضوا به الى آفاق عالية، مدعمين بخيرات الاندلس المناخية والزراعية والتراثية لنيل نصيب الاسد من سياحة العصر.

عندما سقطت بقية الاندلس اواسط الالفية الماضية، رُحل المسلمون وتنصَّر من بقوا حتى يبقوا اصلاً، وتنكروا لأي دماء عربية تجري في عروقهم، وعانى احفادهم لحوالي خمسمائة عام من تفرد الكاثوليكية بهم بدون السماح لدين آخر، ولم يتغير الحال الا بعد دخول اسبانيا السوق الاوروبية المشتركة في زمننا الحالي. كان المستوطنون جيران المتنصرين يعزمونهم في شهر رمضان تحديداً، وبايعاز من السلطات الدينية، يعزمونهم لتناول الغذاء والشراب ظهراً ليفحصوا حقيقة تنصرهم.

رغم ذلك، وهذه قطرة من محيط، لم تتهدم كل آثار العرب والمسلمين طوال خمسمائة عام مضت في الاندلس، ولم تتغير كل طباع القوم من اكل البذور والتسالي وبصق قشورها على الارض في كل مكان، وهذه عادة عربية فريدة في العالم، حتى اللطافة الخلقية وحسن المعشر وسرعة الغضب ورفع الصوت وحب الطرب. ضمن هذه الرؤية علينا التساؤل عن مصير الآثار العربية والاسلامية في البلدان العربية والاسلامية ذاتها. مدن وقرى الاندلس مثل اشبيلية وقرطبة وغرناطة والمرية والعشرات غيرها، تحمل صفات واشكالا عربية مثالية لا تتوفر في الدول العربية. بمعنى آخر حافظ الناس قروناً على تراثهم الانساني والعمراني والحضاري، ثم عادوا الآن وبتسارع متدفق لتجديده. واكثر ما يسر القلب، وسط الغم، هو عودة الاسبان عموماً للفخر بماضيهم. البلد يشهد ترميماً للآثار في كل الاماكن، وكشفا للحقيقة دون مواربة وكأنهم يُعرّبون انفسهم، لكن الاصح انهم على ثقة بأنفسهم الآن تساعدهم على الاقرار بأصولهم المختلطة وتراثهم الفريد.

هنا ايضاً وبالمقارنة، نجد ان بلادنا العربية تخفي تاريخها وتطمس علاقة الغير التاريخية بها. الاسماء العربية في اسبانيا ما زالت في كل مكان، في الشوارع والقصور، في المدن والقرى، الزهراء، الحمراء، الرصافة، غرناطة، بلد الوليد، والف مثال من الاسماء والكلمات العربية الصرفة، بينما في دولنا العربية تثار المعارك على تسمية شارع نابليون مثلاً، ولا ادري كم منا يعلم فضل مذكرات الفونسو العاشر، ناهيك من اقامة تمثال له يعادل تماثيل ابن حزم، وابن رشد، والخليفة الحكم، وولادة وعشيقها ابن زيدون وابن ميمون اليهودي، وكلها وامثالها تملأ شوارع قرطبة الآن.

اذا كانت الاندلس قد عادت للحياة والانفتاح والفخر بفضل الديمقراطية العصرية الغربية، فكيف وصلت قرطبة العربية لصفة «جوهرة العالم» ولكونها اكبر واغنى مدن حوض البحر المتوسط ايام الخلافة الاموية الاندلسية؟ تجربة تعايش الاجناس والاديان في الاندلس لم ولا يوجد لها نظير حتى الآن، ولا أدري اذا امكن تسمية ما كان آنذاك بالديمقراطية، لكنه حتماً إنصاف وعدالة واحترام للقيم وحقوق الانسان. ورغم خطر التيه والاطالة في تقديم الامثلة فلا بد من بعضها.

كان العهد الاموي منذ بدايته في الاندلس يقهر الفتن السياسية ويوفر الحريات العامة، يقرب العلماء ويدعم العلوم الدنيوية عندما كانت الامم الاخرى تحرقهم كسحرة. كان الاندلسيون يتندرون من الروايات التي يجلبها سفراؤهم عن الاقوام الاخرى: كيف يحرق الشماليون النساء مع ازواجهن الموتى؟ وبأي تفسير ينبطح الناس امام ملوكهم وامام البابا؟ كان الاموي الاندلسي الاول عبد الرحمن الداخل «...... يحضر الجنائز ويصلي عليها ويصلي بالناس اذا كان حاضراً الجمع والاعياد ويخطب على المنبر ويعود المرضى ويكثر مباشرة الناس والمشي بينهم». ولكنه كان ايضاً يقطع الرؤوس ويعلقها على اسوار قرطبة ومنها رأس المغيرة، ابن اخيه، عندما اشترك في مؤامرة لتولي الامارة.

في عهد هشام ابن الداخل تحولت الاندلس الى ملجأ للأدباء والعلماء من كل حدب وصوب، يحضرون عبر الحدود الشمالية والجنوبية المفتوحة ويسكنون حيث ارادوا، واقام هشام معاهد تعليم اللغة العربية والادارة ولم يُميز بين الاديان الا بأعمال معتنقيها. ذات مرة سمع هشام ان القرطبيين يتندرون بمشاركته الشخصية في حمل الحجارة لإعمار القنطرة، ويقولون انه يفعل ذلك لأغراضه الخاصة، فزعل الامير واقسم الا يعبر القنطرة الا غازياً او في مهمة رسمية... كان يسمع ويتجاوب مع ألسنة الخليط البشري القرطبي.

في عهد ابنه محمد ظهرت حركة قساوسة انتحاريين يشتمون الاسلام علناً حتى يحكم عليهم بالموت املاً في تحريك الفتنة الدينية، ولكن محمد وابنه من بعده حلا الاشكال بعقد مجلس كنسي توصل بذاته لإقناع المتطرفين بالكف عن ذلك.

الوريث الثامن للداخل، وهو عبد الرحمن الناصر الذي اعلن الخلافة في الاندلس وأوصل البلد الى عصرها الذهبي وخضعت له ملوك الغرب، استمع امام وزرائه وكبار القوم الى قاضي قرطبة سعيد البلوطي يقول «والله يا أمير المؤمنين ما ظننت الشيطان أخزاه الله يبلغ منك هذا المبلغ»، كـــــان القاضي ينتقد الاسراف في تزيين سقف قصر في مدينة الزهراء بالذهب والفضة، واســـتشهد للخليفة بآية «الزخرف»، فخشع الناصر وسالت دموعه على لحيته واحتفظ البلوطي بعنقـــه ووظيفــــــته وواصل النقد من منبر مسجد قرطبة الجامــــــع. هل كان ذلك ديمقراطية؟ مهما كان فانه شكل مع عامل الاختلاط، أحد أسرار التفوق الأندلسي، وكل عام وأنتم والأندلس بخير.