من وثيقة بيلين ـ أبو مازن إلى وثيقة بيلين ـ عبد ربه

TT

ليس معروفا اين صارت وثيقة ابو مازن ـ بيلين، وربما تلك الوثيقة تم تدميرها مع ما بناه الفلسطينيون منذ توقيع اتفاقيات اوسلو. لقد اعترف ابو مازن (محمود عباس) بهذه الحقيقة ودعا الى وقف فوري لعسكرة الانتفاضة، في محاولة اخيرة لوقف انهيار الوضع المعيشي والاقتصادي والسياسي للفلسطينيين ولمنع اسرائيل من اعادة احتلال غزة.

ان كل من انتقد ابو مازن بعد بيانه هذا، على خطأ، بدءا من محمد دحلان الرئيس السابق للامن الوقائي في غزة ووصولا الى نبيل شعث وزير التخطيط والتعاون الدولي اللذين قالا، ان الانتفاضة لم تكن خطأ، «لكن حان الوقت لوضع نهاية للعنف»، وكانا يجب ان يضيفا انه حان الوقت لوقف التدمير الذاتي.

لا نريد العودة الى الماضي القريب والتخمين بان الانتفاضة كانت ستقع، انما ضد السلطة نفسها، لولا ان قرر ارييل شارون رئيس الوزراء الاسرائيلي تثبيت الاحتلال فقام بزيارته الى حرم المسجد الاقصى، فغيّر مجرى الانتفاضة واعاد الاحتلال.

هناك الآن طرحان امام الفلسطينيين، كما يقول مصدر غربي، الاول: ان يسمحوا لاسامة بن لادن بأن يستغل «النفس الاخير» للمعاناة الفلسطينية، فيتبنوا ارهابه من خلال عمليات وحشية يرتكبها باسمهم، كما حدث في مومباسا (فندق الجنة) وباطلاق صاروخي سام ـ 7 على الطائرة المدنية الاسرائيلية. من الواضح ان بن لادن يريد ان يعطي الشرعية لعملياته الارهابية بختمها بعبارة «دفاعا عن الشعب الفلسطيني» او «الجيش الفلسطيني» فهو يعرف ان القضية الفلسطينية هي التي توحّد الشارع العربي والاسلامي كله، ويتوقع ان يتمسك «الفلسطينيون المنهكون» به بطلا وزعيما، فينعكس تمسكهم تأييدا له في الدول العربية والاسلامية.

الطرح الثاني امام الفلسطينيين: اعلان وقف كامل لكل العمليات الانتحارية وفي كل مكان وضد كل الاهداف ومن قبل كل الاطراف الفلسطينية لان استمرار تلك العمليات ولو ضد اهداف عسكرية يعطي شارون القدرة على مواصلة التهديد بفكرة «الترانسفير» التي انعكست خوفا متأصلا في الاردن فصار يشدد على دخول كل فلسطينيي الضفة الغربية الى اراضيه. ويقول محدثي: ان موقع الاردن الجغرافي يكشف الاجراءات الصارمة التي يتخذها، لكن هذا لا يعني ان بقية الدول العربية ترحب بدخول الفلسطينيين، وهي في خضم الحرب العالمية ضد الارهاب، ربما ترضيهم بدعم الانتفاضة لكنها لا تريدهم عندها.

ويضيف، وسط هذا الجو يبرز الجزء الثاني من الطرح الثاني، وهو الرئيس الجديد لحزب العمل الاسرائيلي عمرام متسناع الذي يقول بعودة الفلسطينيين الى طاولة المفاوضات، وعليهم ان يصغوا الى ذلك، لان متسناع اذا لم يلق ردا من الطرف المقابل، سيدعو الى انسحاب احادي من الضفة الغربية وقطاع غزة والى الفصل الكامل عن الفلسطينيين، ثم انه يشعر بالحاجة الضرورية لاتخاذ مبادرة لتغيير الوضع، ويرى ان الذين يقولون ان لا مفاوضات طالما الارهاب موجود (اي شارون ومجموعته)، انما يعطون المتطرفين حق تقرير الاولويات.

من جهة اخرى، نُقل عن متسناع قوله، «ان علينا ان نحارب الارهاب وكأن لا مفاوضات قريبة، وان نفاوض وكأن الارهاب غير موجود». ومساء الاثنين الماضي، عقد متسناع اول اجتماع للبدء في حملته الانتخابية، وكانت استطلاعات الرأي العام الاسرائيلي اظهرت ان الغالبية تؤيد انسحابا احاديا او مفاوضات للفصل بين اسرائيل والسلطة الفلسطينية وايجاد احزمة امان ما بين اسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة.

ويرغب متسناع التركيز في حملته على سياسة شارون وعلى الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتدهور في اسرائيل كي يدرك الرأي العام الاسرائيلي واقعا يبعده عن توجه شارون الامني المحض، وبان الصراع مع الفلسطينيين هو الذي يستنزف كل طاقات اسرائيل، وبالتالي فان مفتاح تغيير الوضع يكون بوضع نهاية للاحتلال والانفصال عن الفلسطينيين. ويبدو ان متسناع يهدف الى نزع الاقنعة عن وجه شارون ليثبت انه ليست لديه خطة سياسية للحل.

واذا كان متسناع لا يثير حفيظة كل اليمين الاسرائيلي، الا ان علاقاته داخل حزب العمل فيها نوع من المنافسة، فهو اراد تفريق نفسه عن يوسي بيلين بالذات، بانه، وبعد فوزه برئاسة حزب العمل، لم يرفض فكرة المشاركة في حكومة ائتلاف وطني، بعد الانتخابات، شرط تبني فكرته بالفصل الفوري عن الفلسطينيين، ثم انه وضع اللوم على كل ما جرى منذ ايلول (سبتمبر) 2000 على الفلسطينيين وحدهم!

لكن هذا يجب ان لا يثير حفيظة الفلسطينيين الآن. لان متسناع، يفّرق بين الفصل بالتوافق وبين الانسحاب الاحادي، وهو بنى عروضه للفلسطينيين على خطة كلينتون (الرئيس الاميركي السابق)، شرط التوصل الى اتفاق ينهي حالة الصراع، وبعدها يوافق على الانسحاب الكلي تقريبا من كل الاراضي المحتلة وعلى تقسيم القدس، وتفكيك كل المستوطنات اليهودية في غزة وفي الضفة الغربية، وهو يفضل الاتفاق مع الفلسطينيين على اتخاذ قرار الانسحاب الاحادي، لان اسرائيل عندها هي التي ستحدد الخط الذي ستنسحب اليه، وتترك لنفسها حرية ارسال جيشها الى اراضي الدولة الفلسطينية، ساعة تشاء، لمحاربة الارهاب. عبر هذا التفكير يرغب متسناع في كسب اصوات المعتدلين في حزب الليكود واقناعهم بان طريقته افضل من حلول شارون، لانها تحدث تغييرا جذريا في اوضاع معيشتهم ووضع اسرائيل كدولة.

اما سبب الشعور بالمنافسة بين متسناع وبيلين، فيعود حسب مصادر مطلعة، الى ان بيلين ينكب مع ياسر عبد ربه وزير الاعلام الفلسطيني على اعادة صياغة خطة كلينتون، التي عرضها على رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق ايهود باراك ورئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات في كامب ديفيد عام 2000.

ورغم ان متسناع وبيلين ـ عبد ربه ينطلقون من خطة كلينتون، الا ان متسناع رفض الزام نفسه بأي اتفاق مسبق مع الفلسطينيين، طالما انه مرشح لرئاسة الوزارة، وفي حال فوزه، فقد يستعمل اتفاق بيلين ـ عبد ربه كأساس للمفاوضات.

وتقول المصادر الغربية المطلعة، ان بيلين ابلغ متسناع ما بذله من جهود خلال 22 شهرا ماضيا، للتوصل الى اتفاق مع مجموعة فلسطينية يترأسها عبد ربه، وانه يرغب، اثناء الحملة الانتخابية بتقديمها للاسرائيليين على اساس ان هناك طريقا آخر للخروج من الدوامة الدموية وان هناك بالمقابل شريكا يمكن التفاوض معه.

ووثيقة بيلين ـ عبد ربه، استوعبت دروس اتفاقيات اوسلو، لهذا حددت توقيتا واضحا لكل مرحلة، ومعادلة حل لكل المشاكل التي قد يعاني منها الطرفان اثناء المفاوضات، وحسب المصادر التي اطلعت على هذه الوثيقة، فانها تنوي اعطاء دور اساسي لآلية دولية تشرف على تطبيق الاتفاق، وتبدي حكمها على كل الاختلافات التي تبرز. وتلغي الوثيقة تقسيمات الاراضي الفلسطينية المحتلة، من منطقة ـ الف ـ الى منطقة ـ باء ـ الى منطقة جيم ـ لانها تقترح اخلاء كل المستوطنات من الاراضي التي ستعود الى الدولة الفلسطينية، وتقترح الوثيقة تبادلا في الاراضي بين اسرائيل والفلسطينيين، بحيث تسمح بضم المستوطنات الكبيرة التي تعيش فيها كثافة المستوطنين، الى اسرائيل. اما بالنسبة الى حق العودة، فان الرئيس الاميركي السابق بيل كلينتون دعا في خطابه الشهير الفلسطينيين الى العودة الى اراضي الدولة الفلسطينية، وكذلك اقترح حلا لمدينة القدس.

من المؤكد ان عبد ربه، ما كان ليترأس وفدا فلسطينيا ويفاوض طوال هذه المدة من دون موافقة ياسر عرفات، وكلنا يذكر اعلان عرفات قبل اشهر موافقته على خطة كلينتون، ويمكن الربط بين ما كان يتفاوض حوله بيلين وعبد ربه سرا وبين ما كان يطلع عليه عرفات.

هناك الآن عدة مشاكل، منها ان الادارة الاميركية قدمت مبادرة «خريطة الطريق»، وهي وافقت على تأخير اعدادها الى ما بعد اجراء الانتخابات الاسرائيلية في 28 كانون الثاني (يناير) المقبل، وكانت المسودة الاخيرة دعت الى قيام دولة فلسطينية بحدود مؤقتة عام 2003 على ان تُرسم حدودها النهائية عام 2006.

وبوجود وثيقة بيلين ـ عبد ربه، عادت خطة كلينتون الى البروز، فهل ستشجع ادارة الرئيس جورج دبليو بوش على تبنيها، او يكون مصير هذه الوثيقة شبيها بمصير وثيقة بيلين ـ ابو مازن، ويصبح بالتالي بيلين على خطى شيمون بيريز، طارحا لوثائق مصيرها الفشل؟

المشكلة الاخرى ان خطة كلينتون قُدمت الى ياسر عرفات، والادارة الاميركية الحالية تطالب بتغيير القيادة الفلسطينية وبالذات ياسر عرفات، ثم ان متسناع قال، انه عندما تستطيع اسرائيل تغيير قيادتها، فهو واثق بان الفلسطينيين سيأتون بقيادة جديدة ذات توجه جديد وقادرة على التفاوض واتخاذ القرارات وتطبيقها.

المشكلة الثالثة، ماذا اذا فاز شارون في الانتخابات المقبلة، وهذا شبه مؤكد، فهل سيسمح الفلسطينيون بقيام معارضة اسرائيلية فعالة تدافع عن حل سلمي يعيد اليهم مستقبلهم، او نعود الى الدفاع، بالروح.. بالدم.. عن شخص واحد؟

المهم، ان لا يتعرض الناخبون الاسرائيليون وهم يدلون بأصواتهم لعملية انتحارية فلسطينية، لان ورقة الاقتراع، لا يمكن ان تواجه الرصاصة، انما تنتصر عليها بكل تأكيد.