كركند روسي وخيار بلغاري

TT

كل عام وانتم بخير. انسوا قليلاً عناوين المتاعب والشقاء. خففوا عن انفسكم حبوب المهدئات. ليس كل ما في العالم كالحاً. تطلعوا قليلاً في هذه الدنيا. انها مليئة بالاخبار المفرحة. اناس تفوز بشهادات الدكتوراه. واناس تفوز بعقود جديدة. واناس تصرح عن ابتهاج الناس. اضحك، تضحك لك الدنيا. لقد اثبت العلم ما اثبته الادب قبل الف عام: الضحك خير دواء. وانا شخصياً لا اطيق الذين لا يقدرون على الضحك. تصور انني بنيت كل موقفي من اهم وزيري خارجية في الاتحاد السوفياتي واميركا، على عدم قدرتهما على الابتسام: اندريه غروميكو وجيمس بيكر. كان يخيل اليَّ ان غروميكو يعاني من قرحة مزمنة وفتق في الحجاب الحاجز يجعله يزم شفتيه على الدوام. وعندما قرأت مذكراته فيما بعد تبين لي انه رجل مسكين وذكي وعارف بأمور الكون، وان المسألة على الارجح كانت زوجته، التي كانت تشبه زوجة نيكيتيا خروشوف، ومثلها ترتدي الفساتين المصنوعة في اوكرانيا. او في تركمنستان.

كل عام وانتم بخير. صحيح ان لا شيء يفرح على الاطلاق، لكن هذا لا يعني ان لا شيء يضحك ايضاً. شخصياً بدأت نهاري ضاحكاً. بل كان لي من الضحك زاد. فقد قرأت في «الهيرالد تريبيون» عن كتاب جديد عن الزعيم المبجل كيم جونغ ايل، وضعه الديبلوماسي الروسي قسطنطين بيكولوفيسكي عن رحلة الزعيم المبجل الى روسيا بالقطار صيف 2001 والتي دامت شهراً. وكنت قد كتبت لجنابكم في هذه الصفحة انذاك عن متابعات الرحلة. رئيس دولة يمضي شهراً كاملاً في القطار. والوكالة الكورية الشمالية تبلغ مواطنيها الاعزاء ان معجزة قد حدثت على الطريق: لقد سقط المطر المحتبس منذ سنوات، عندما توقف الزعيم المبجل في المحطة واطل. هطل المطر هطولاً. وصفق المستقبلون في المحطة للزعيم المبجل الذي رفع يده محيياً. وابتسم. لا تفارق الابتسامة ثغره، الزعيم المبجل.

الآن، السيد بيكولوفيسكي يصف الرحلة من الداخل، من مقصورة كيم جونغ ايل، لانه كان المرافق الرسمي المنتدب. يا لحظك السعيد ايها السيد بيكولوفيسكي. هات خبِّرنا بما وقع لك في الرحلة السعيدة؟ سعيدة؟ هل قلت سعيدة؟ لقد كانت رحلة من الف ليلة وليلة. كان في امكان الزعيم المبجل ان يطلب للغداء اي شيء تحلم به النفس الضعيفة: ارقى المأكولات الفرنسية. ارقى المأكولات الصينية. وطبعاً ما يرافق ذلك من مباهج. وكانت الصحون صينية والعصي (اي عصي الطعام لأن لا شوك ولا سكاكين في آسيا الكبرى) من الفضة الخالصة. وكان الزعيم المبجل يتذوق ثم يعطي رأيه. أ...م. أ...م. وكان بينه وبين نفسه يتمنى لو ان المليوني كوري المصابين بالجوع يشاركونه المائدة. لكن الرياح تجري بما لا تشتهي القطارات الرئاسية. أ..م. أ...م. لذلك كان القطار يزود بالكركند الحي على مدى العبور في سيبيريا. وقد هام الزعيم المبجَّل بالخبز الذي قدَّم اليه في احد مطاعم كاباروفسك فطلب من احد مساعديه ان يحمل 20 رغيفاً منها بالطائرة لكي تكون طازجة عندما يعود الى بيونغ يانغ. الذوق الرفيع. انه الذوق الرفيع. ففي مدينة اومسك قدم للزعيم المبجل صحن من الكبيس المملح فرفض. لماذا رفض الزعيم المبجل الكبيس؟ لأنه ما ان تذوقه حتى عرف ان الخيار مكبوس في بلغاريا وليس على الطريقة الروسية التقليدية. ايه نعم. لكل شيء اصول في هذه الدنيا. ثم قدم اليه صحن من اللحم المطبوخ بالجبنة والمايونيز، فمد شوكته (الأكل بالعصي فقط على القطار) وتذوق قطعة ثم قال: اي لحم هذا؟ يجب ان تكون القطعة اكبر حجماً ومغلية ثم تغمس بالمرق. تحياتنا ايها الزعيم المبجل. ايها الخبير العظيم.