الخطر الحقيقي ليس خارجيا فقط

TT

كيف يفكر المثقفون المسلمون والعرب الذين يعيشون خارج «ديار الاسلام»؟ كيف ينظرون الى واقع العالمين العربي والاسلامي والى مصيرهما؟ هل يتيح لهم تحررهم من ضغط السلطات السياسية والدينية ومجتمعاتهم الاصلية عليهم، فرصة اكتشاف حقيقة اسباب التخلف والعجز والمنازعات التي يتخبط فيها المسلمون والعرب؟ أم ان تأثرهم بالاجواء الأجنبية السياسية والفكرية يجنح بهم نحو تفكير او رؤية خاصة لا تستسيغها المجتمعات العربية والاسلامية وترفضها المرجعيات الدينية والسلطات السياسية، ايضا؟

ما دفعني الى هذه التساؤلات رسالة وصلتني من مهندس صديق عربي مسلم يعيش في احدى دول الشرق الاقصى (لا في الغرب) يقول فيها: «انني اشعر بالخجل والاحباط امام عجز قياداتنا في التغلب على التحديات التي تواجه امتنا. واعتقد أن علينا مساءلة انفسنا والغوص فيها جديا. اي ان نكتشف او نحدد مشاكلنا بأنفسنا ونجد حلولا لها بأنفسنا، مهما كانت هذه الحلول مرة الطعم. وإلا فإننا في هذا العالم المتجه، لا محالة، الى العولمة سنجد أنفسنا وحيدين في الطريق ومتخلفين. ليس الفقر والجهل وحدهما وراء عجزنا وتخلفنا، بل هناك اسباب اخرى من بينها امتزاج الجهل بالثروة وبالادعاء او الغرور. وهل ننتظر من العالم ان يجلس مكتوف الذراعين تاركا ايانا نعبث بكل شيء من اجل تحقيق غايات بعضها مشروع والبعض غير مشروع او مقبول؟.. ان الولايات المتحدة قررت وضع يدها على الشرق الاوسط وثروة النفط في الخليج عبر احتلالها للعراق. وسيبدأ عصر جديد في هذه المنطقة من العالم وتتغير اشياء كثيرة، انه تغيير محتم، ولكنه كان من الافضل لو قمنا به بأنفسنا ولم يفرض علينا فرضا. ان ما يؤلمني هو اهتمام بعض المثقفين الغربيين بمشاكل العالم العربي والاسلامي بينما لا يظهر المثقفون العرب والمسلمون اهتماما بالقضايا الانسانية في الغرب. اننا غارقون حتى اعناقنا في الحنين الى تراثنا وفي مداعبة احلامنا القومية والتشكي من الظلم والقهر، بحيث أن عقولنا باتت عاجزة عن الابداع. ففي كل مرة يجابهنا خطر أو تحد، وبدلاً من ان تعمل ادمغتنا على استنباط حل جديد لها، نرتد بتفكيرنا، عفويا، الى التراث الديني والى امجاد الامة والقومية العربية او الى تفجير الغضب على الظلم. ونتوقف عن التفكير الخلاق والمبدع. اننا بحاجة الى قيادات جديدة، الى افكار جديدة، وإلى تفكير جديد الى مقاربة جديدة للأمور. ان الفكر لا حدود له. والمشكلة ليست في امكانية او عجز تفكيرنا عن العثور على حلول، بل فينا، كأفراد وكمجتمعات، وفي اصرارنا على اقامة سياج او جدران حول انفسنا، نظن انها تحمينا بينما هي تأسرنا. فلنطلق عقولنا من قيودها وعندئذ يزدهر الابداع وتتبلور الحلول وتعود الحقوق المسلوبة ويطل العرب والمسلمون كمشاركين في حضارة القرن الحادي والعشرين».

ليست هذه الصيحة الا واحدة من الصيحات التي اخذت تتردد في صفوف المثقفين العرب والمسلمين الذين يعيشون خارج ديارهم الاصلية ويحتلون مراكز مرموقة في البلاد التي هاجروا اليها. وهم يعدون بمئات الالوف. معظمهم نزح اما هربا من مجتمعات تتحكم فيها انظمة ثيوقراطية او بلوتوقراطية ليس لكرامة الانسان ولحريته وحقوقه احترام، وإما طلبا للرزق الكريم او للعيش في اجواء تشجع على التفكير الحر والبحث العلمي والابداع. انهم، في معظمهم، لم يتخلوا عن حبهم لأوطانهم ولا عن تعلقهم بمعتقداتهم ولا عن مشاعر التضامن مع شعوبهم العربية والاسلامية، ولكنهم يختلفون عن المسؤولين والمثقفين والقياديين الذي يحكمون او يوجهون المجتمعات العربية والاسلامية، اليوم، لا سيما المنخرطين في الحركات والتيارات الاصولية الراديكالية والمتطرفة التي تركز «جهادها» على ثلاثة: الغرب والولايات المتحدة الاميركية بالذات، واسرائيل والانظمة الحاكمة، فهؤلاء المثقفون المهاجرون ـ ويشاركهم في تفكيرهم عدد كبير من المثقفين المقيمين في البلاد العربية والاسلامية ـ ولكن من دون ان يتمكنوا او يجرؤوا على الاعلان ـ يرفضون منطق «المؤامرة» و«الجهاد» و«التكفير» و«العمليات الارهبية الانتقامية» بمقدار ما يرفضون الاستسلام والعجز والفشل التي تتخبط فيها الانظمة والشعوب العربية. ولكن، اي تأثير لهؤلاء او لأولئك على الشعوب العربية والاسلامية او على انظمتها؟ بل انهم كثيرا ما يتعرضون الى اتهامهم من قبل ابناء امتهم او دينهم لهم بالمروق الفكري او العقائدي وبالتأثر بالغرب وبثقافته،ان لم يكن بالعمالة، وذلك في الوقت الذي يحاربهم فيه المثقفون الغربيون اليهود والمسيحيون المحافظون. ان الولايات المتحدة الاميركية، بعد اعلانها الحرب على ما تسميه بالارهاب، لم تخف رغبتها ـ وربما عزمها ـ على تغيير الانظمة والاوضاع في الشرق الاوسط الذي يشكل قلب العالم العربي والعالم الاسلامي. كما ان الحركات والجماعات الاسلامية الاصولية المتطرفة لا تخفي معارضتها للأنظمة الحاكمة في العالمين العربي والاسلامي ولا سعيها الى تغييرها. وهكذا يلتقي الرئيس بوش مع بن لادن رغم تقاتلهما، على مناهضة الانظمة. وتجد هذه الاخيرة نفسها مهددة من اعداء داخليين وخارجيين، في آن معا، ومتحاربين بين بعضهم البعض؟

لا شيء، لسوء الحظ سوف يتغير في الواقعين العربي والاسلامي اذا لم يتغير التفكير السياسي فيهما، لا على صعيد الحكم فحسب بل على صعيد الشعوب والاحزاب والقوى السياسية الطالعة. كما لا خلاف على ان اي محاولة تغيير عن طريق الحرب او الارهاب او العنف، محكوم عليها سلفا بالفشل. وهي لن تساعد على انتشال العرب والمسلمين من المأزق التاريخي ـ السياسي ـ الحضاري، الذي يتخبطون فيه. ولكن ماذا يعني التغيير بالضبط؟ هل هو تغيير في الوجوه والانظمة؟ ام هو تغيير في التفكير السياسي والتاريخي؟ ام انه تغيير اعمق وأوسع يطال اسس المجتمعات وتقاليدها وثقافتها؟ ان التيارات السياسية المعارضة التي تطالب بتغيير الانظمة في العالمين العربي والاسلامي ليست متفقة على نظرة سياسية او فلسفة مصيرية، وبعضها اذا انتصر في بعض الدول العربية والاسلامية الكبيرة سيقود العرب والمسلمين الى حرب مفتوحة مع الغرب، وليس اكيدا ان النصر سيكون فيها للعرب وللمسلمين؟

ان الحرب على الارهاب التي تقودها الولايات المتحدة تخفي في طياتها عدة حروب او صراعات اخرى كالصراع التاريخي السياسي ـ الديني بين الغرب والعالمين العربي والاسلامي، والصراع بين الحضارة العربية ـ الاسلامية والحضارة الغربية المسيحية ـ اليهودية في معطياتها الجديدة، و الصراع بين اسرائيل والفلسطينيين وبين اسرائيل والعرب، والصراع بين شمال العالم الصناعي الغني وجنوب الارض الذي يسمى ايضا بالعالم الثالث، والصراع بين الانظمة الحاكمة في العالمين العربي والاسلامي والحركات الدينية السياسية الاصولية الراديكالية، والصراع بين هذه القوى الاخيرة والقوى الديموقراطية والتقدمية. وان كل هذه الصراعات سوف تتأثر ـ وقد يحسم بعضها ـ بتطور وتداعيات الحرب الاميركية على الارهاب. وقد يكون من الصعب في الاشهر أو السنوات القليلة القادمة على العقل العربي والفكر السياسي الديني، اكتشاف الاسباب الحقيقية للعجز والاحباط ورسم استراتيجية جديدة لانقاذ المصير من المأزق الذي علق فيه. ولكن الانظمة الحاكمة في العالمين العربي والاسلامي لا تزال، رغم كل شيء، «اعقل» من بعض اخصامها المتطرفين وربما اقرب الى الديموقراطية من بعضهم.