فكرة الهجمات الوقائية تشيع الفوضى في العالم

TT

نذر الفوضى العالمية تطل علينا حيناً بعد حين، مثيرة سحابات قاتمة في أفق المستقبل. لست في وارد الحديث هنا عن عمليات التفجير والاغتيال التي تتابعت على نحو لافت للنظر في أنحاء مختلفة من آسيا وأفريقيا وفي منطقة الخليج، حيث سبق أن تعرضت لتلك العمليات في هذا المكان قبل أسابيع محددة، لكن ما أعنيه هذه المرة شيئا آخر، أخطر وأبعد أثراً. فقد أعلن رئيس الوزراء الاسترالي جون هوارد أن بلاده مستعدة لشن هجوم عسكري وقائي في دول آسيوية مجاورة، لضرب معاقل الارهاب فيها اذا لزم الأمر. وقال في تبرير اعلانه ان هجمات 11 سبتمبر فرضت إحداث تغييرات عديدة في سياسات الدول، التي تعين عليها أن تعيد النظر في أسلوب دفاعها عن استقرارها وأمنها. وقد جاء تصريح هوارد بعد أسابيع قليلة من مصرع 170 استرالياً بسبب التفجير الذي أحدثته احدى الجماعات الارهابية الاندونيسية في أحد فنادق جزيرة بالي، ليس ذلك فحسب، وانما تأسيا بما أسمته الولايات المتحدة بسياسة الاستباق واجهاض العمليات الارهابية، التي تنطلق من ذات الفكرة، أي من توجيه ضربات اجهاضية الى مناطق الارهاب حيث وجدت، ولو أدى ذلك الى انتهاك السيادة والعدوان على حدود دولة أخرى عضو بالأمم المتحدة. وهو ما فعلته الولايات المتحدة حين أطلقت احدى الطائرات التابعة لها صاروخاً باتجاه سيارة كان يركبها ستة يمنيين في صحراء مأرب اليمنية، بدعوى أن بينهم شخصا مطلوبا اعتبر مسؤولاً عن الهجوم على المدمرة «كول» قبل سنتين، وان الآخرين الذين معه بالسيارة كانوا من عناصر منظمة القاعدة.

وبينما أعلنت الولايات المتحدة دعمها ـ طبعاً! ـ لموقف استراليا، واعتبرت أن لها حقاً في الدفاع عن نفسها ضد أي هجوم ارهابي ـ أو احتمال هجوم ـ تتعرض له، فان تصريح رئيس الوزراء الاسترالي آثار حفيظة الدول المجاورة، خاصة الفلبين واندونيسيا وماليزيا، حتى أن الدكتور محضر محمود رئيس الوزراء الماليزي اعتبر أن أي تدخل لاستراليا في أراضيها، سيعد بمثابة «اعلان حرب» ضدها.

وفي الوقت نفسه قال وزير الخارجية الماليزي سيد حميد البار ان دول تجمع جنوب شرق آسيا (آسيان) ترفض تفرد دول في استخدام القوة ضد أي من أعضاء الحلف بذريعة مكافحة الارهاب، مردداً بذلك انتقادات مماثلة في الفلبين وأندونيسيا وتايلاند، اتهمت خلالها كانبيرا بأنها تلعب دور نائب الولايات المتحدة في المنطقة.

بشكل مواز تناقلت وكالات الأنباء تقارير من تل أبيب تفيد بأن جهاز الموساد (المخابرات الاسرائيلية العاملة بالخارج) يعكف هذه الأيام على اعادة تفعيل دوائر العمليات الخارجية (الاغتيالات)، التي كان نشاطها قد جمد في عام 1998، اثر المحاولة الفاشلة التي جرت في عمان لاغتيال خالد مشعل، رئيس مكتب حركة حماس. وأضافت التقارير أنه بسبب من ذلك، فان رئيس الوزراء ارييل شارون عين لرئاسة الموساد أحد رفاق دربه القدامى، الجنرال في الاحتياط مئير دغان، الذي قاد مئات العمليات العسكرية المغامرة وراء الحدود، في عدة دول عربية وأجنبية، وقد قويت الأصوات المؤيدة لاعادة تنشيط فرق الاغتيالات بالخارج، في أعقاب العملية التفجيرية في مومباسا ومحاولة تدمير طائرة الركاب الاسرائيلية في مطار المدينة الكينية ذاتها، حيث تجددت الدعوة لتنشيط دور جهاز العمليات الخارجية، لما سمي بملاحقة أعداء اسرائيل في مختلف أنحاء العالم.

صحيح أن عمليات الخطف والاغتيال خارج الحدود مارستها اسرائيل بصفة منتظمة طيلة السنوات التي سبقت محاولة اغتيال خالد مشعل، لكنها ظلت تصنف بحسبانها ممارسات صادرة عن دولة خارجية عن القانون ، قامت بالأساس على أكتاف عصابات ارهابية قامت بما هو أكثر من الخطف والقتل في عام 1948. لكننا لا نستطيع أن نغفل حقيقة الدور الأميركي في تشجيع اسرائيل على العودة الى ذلك الأسلوب التي كانت قد امتنعت عنه منذ عام 98. ذلك أنه بعد مضي حوالي شهر على هجمات الحادي عشر من سبتمبر، في أكتوبر 2001، أصدرت ادارة الرئيس بوش مرسوماً رئاسياً يمنح المخابرات المركزية (سي . آي. ايه) سلطة تنفيذ «عمليات سرية فتاكة»، لازالة تنظيم القاعدة من الوجود، ومن الناحية الشكلية فان هذا المرسوم يعد خرقاً للأمر التنفيذي رقم 12333 الذي أقره الرئيس الأسبق جلين فورد، وجدده كل من الرئيسين السابقين كارتر وريجان. وهو ينص بوضوح على أنه: لا يمكن لأي موظف حكومة لدى الولايات المتحدة أن يرتبط أو يخطط من أجل تنفيذ عملية اغتيال من أي نوع. وقد حاول البيت الأبيض أن يتنصل من الأمر المشار إليه، بدعوى أنه لا ينطبق على وقت الحرب، أو على الأشخاص الذين أطلق عليهم حديثاً وصف «جنود العدو»، وهم الذين لا يختلفون عن جنود العدو الذين قتلوا خلال الحروب السابقة.

وحتى اذا سلمنا بفكرة أن الأمر العسكري لا ينطبق على وقت الحرب، فالقدر المتيقن أن ذلك التأويل ينهض سبباً كافياً لقتل اليمنيين الستة في صحراء مأرب، لأن الولايات المتحدة ليست في حالة حرب مع اليمن.

هكذا، فاننا أصبحنا بصدد حالات ثلاث تم فيها تسويغ القتل خارج الحدود باسم الاستباق والاجهاض المبكر للعمليات الارهابية. وهو تطور خطير يفتح الباب لتداعيات لا حدود لها، باعتبار ان لكل دولة أعداء وخصوما، حقيقيين أو وهميين. واذا سمحت كل دولة لنفسها أن توجه ضربات الى أشخاص أو تجمعات خارج حدودها مستخدمة ذريعة الاستباق والاجهاض المبكر والدفاع عن الأمن القومي، فان ذلك سيعيدنا بصورة تدريجية الى عصر الغاب وأسلوبه، الذي يحتكم الى القوة وليس القانون أو الأخلاق.

لقد قلت في البداية اننا بصدد صورة للفوضى أخطر وأبعد أثراً من عمليات الاغتيال والتفجير التي قام بها أشخاص أو جماعات في بعض الدول الآسيوية والأفريقية. ومكمن الخطورة هنا هو أن الأعمال الاستباقية والاجهاضية ـ التي أراها أعمالاً ارهابية بامتياز ـ تقوم بها دول وحكومات لها شرعيتها ومكانتها، وبعضها دول كبرى تقدم نموذجاً في العلاقات الدولية اذا تم احتذاؤه فلن يستقر مكان بالكرة الأرضية.

ما يدهش له المرء هو تلك السهولة التي أمكن بها تجاوز اعتبارات القانون والأخلاق في فكرة توجيه الضربات الاستباقية والاجهاضية، التي لا تعني في حقيقة الأمر.. وكما أثبتت التجربة، إلا المبادرة الى قتل آخرين (في اليمن كان يمكن اعتقال الأشخاص الستة ومحاكمتهم ، لكن المخابرات المركزية فضلت قتلهم!).. وذلك بحجة توافر أنباء عن اعدادهم أو انعقاد عزمهم على القيام بعمليات ارهابية ضد الطرف الذي وجه الضربة الاستباقية. هو قتل خارج القانون اذن لا تحقيق فيه ولا ادانة.

ان عمليات الاغتيال بحجة الاستباق تثير أسئلة أخلاقية حيوية، ففي حالة قتل الأشخاص الستة في صحراء مأرب اليمنية، هل تعتبر ادارة الرئيس بوش أنه من الأفضل أن يموت ستة من جنود العدو، رغم عدم اثبات ادانتهم، بدلاً من أن يحيا جنوب أميركا ومواطنوها وهم معرضون للخطر؟ ذلك ان الجدل النفعي الذي يسمح بحدوث شيء من هذا القبيل، يتجاهل الأهمية الأساسية لحقوق الأفراد، وهي حقوق يفترض أن تشكل النظام الأساسي للولايات المتحدة.

الفقرة السابقة ليست من عندي، ولكنني اقتبستها من مقالة نشرتها «الشرق الأوسط» في 28/11 تحت عنوان «الرجل الطيب أصبح قاتلاً»، وقد كتبتها استاذة العلوم السياسية في جامعة ستانفورد الأميركية. وتضمنت المقالة نقداً شديداً لموقف الادارة الأميركية الذي سوغ عملية القتل خارج العدالة والقانون، واعتبرته موقفاً غير مسؤول، وتحولاً غير أخلاقي في سياسة دولة تزعم أنها مدافع عظيم عن حقوق الانسان. كما حذرت من أن عمليات الاغتيال لا توفر الحماية للأمن الوطني، وانما تنخر في عظامه، وتوفر سابقة للدول الأخرى لكي تقوم بنفس الممارسات.

نحن اذن بصدد ممارسات تبدو في ظاهرها احتشاداً لمواجهة الارهاب وتتبع مصادره وتجفيف منابعه، لكن الجميع يتجاهلون تأثيرها في المدى البعيد، بما قد تفضي اليه من فوضى، اذا ماقررت دول أخرى أن تسير على ذات الدرب واذا ما حذا الأفراد حذو تلك الدول، وبما يترتب عليه من تآكل لفكرة الاحتكام الى القانون في تصفية الخلافات، ومن تهديد لضمانات العدالة الواجب الالتزام بها في محاكمة المشتبهين.

الذي لا يقل خطوة عما سبق، ان الدول التي تستهدف في عمليات الاستباق المزعومة بالدرجة الأولى تلك التي تقع في حدود الدائرة العربية والاسلامية، الأمر الذي يعني أن مجتمعات المسلمين أصبحت المنطقة الرخوة التي تستعرض فيها الدول الأخرى عضلاتها، وتمارس استكبارها واستعلاءها، وفي هذه الحالة فاننا لا ينبغي أن نكتفي بلوم أولئك المستكبرين أو المفترين، لكننا لا نستطيع أن نعفي من اللوم أولئك الذين تحولوا الى حائط مائل يستهدفه ويجترئ عليه كل من هب ودب. ذلك أن أولئك المفترين لو قوبلت ممارساتهم ببعض الغضب وقليل من النخوة لترددوا ألف مرة قبل أن يحاولوا الاعتداء على حرمة أي بلد أو سيادته.