سنوات الرصاص الإيطالية

TT

قول أهل اليمين في شبه الجزيرة الإيطالية، إن طوني نيغري الذي يعتبر أكبر وأهم منظّر ماركسي بعد انطونيو غراشي، «معلّم سيئ استعمل ذكاءه لارتكاب الشرور». وهم يعتبرونه المسؤول الأول عن تلك السنوات القاتمة التي عاشها الإيطاليون خلال السبعينات والتي قامت فيها منظمة: «الكتائب الحمراء» الماركسية ـ اللينينية المتطرفة التي لا يزالون يؤكدون بأنه كان يتزعّمها، بارتكاب جرائم اغتيال في حق العديد من الشخصيات السياسية، بينها الوزير الأول الدو مورو، ويصفونه بـ «الجبان» وبـ «الخائن»، لأنه بحسب وجهة نظرهم غرّر بطلبته، وأرسل بالعديد منهم الى السجون أو إلى الموت، ثم فرّ هارباً إلى فرنسا ليمضي فيها خمسة عشر عاماً محمياً من قِبل المفكرين اليساريين هناك. ويقول صحافي بارز من أهل اليمين: «إن طوني نيغري شخص مقيت ولو وجدت نفسي وجهاً لوجه معه لصفعته!».

غير أن أهل اليسار يقدمون صورة مغايرة تماماً للصورة المذكورة، ويقولون إن طوني نيغري مفكر مرموق، حاد الذكاء، واسع الاطلاع والمعرفة، يمتلك قدرة فائقة على التنظير، خصوصاً في مجال الفلسفة الماركسية. وقد أصبح لكتابه «الامبراطورية» الذي اصدره مع الأمريكي ميخائيل هاردت عام 2000، انجيل جميع التيارات والحركات اليسارية المناهضة للعولمة ولسياسة الولايات المتحدة الأمريكية.

ويقول مناضل يساري فرنسي ان طوني نيغري هو واحد من أهم المفكرين راهناً، أما صديقه ميخائيل هاردت فيقول عنه: «لقد كان شيطان عقد السبعينات بالنسبة للإيطاليين، والآن هو شيطان مهم يجب الانصات إليه».. لكن من هو هذا الشيطان السيئ والجميل في نفس الوقت؟.

ولد طوني نيغري في مدينة «بادو» شمال ايطاليا عام 1932، وهو يقول: «أتذكر وأنا طفل أن المنطقة التي كنا نعيش فيها كانت جدّ بائسة وبلا أية موارد تقريباً. وكان الناس مضطرين للذهاب إلى مناطق أخرى بحثاً عن عمل أو عن وضع أفضل. وكانت سنوات الحرب العالمية الثانية، جدّ قاسية. ومع المزارعين كنا نتقاسم الفقر، وكان البيت الذي نسكنه رطباً، وكان سقفه يقطّر حين تنزل الأمطار، ولم يكن لدينا ماء ساخن».

وخلال الحقبة الفاشية، اعتقل والد طوني نيغري الذي كان ناشطاً في الحزب الشيوعي الإيطالي واخضع لتعذيب وحشي قد يكون السبب الأساسي في وفاته، وذلك عام 1936، وكان على والدته المعلمة أن تواجه لوحدها الوضع الصعب للعائلة، باذلة جهوداً مضنية لكي تعيل أولادها الثلاثة. وكانت أول حركة تمرّد عاشها الطفل طوني نيغري تظاهرة نظمت في «بادو» احتجاجاً على منع فيلم فيليني الشهير La Dolcevita، من قبل أحد القسس. وفي عام 1944، اكتشف الماركسية بمساعدة شاب مناهض للفاشية سوف يصبح فيما بعد زوج أخته، وهو يقول عن ذلك: «كانت الفاشية قد انهارت في عام 1943، وكانت ايطاليا تعيش تحت قبضة الألمان، غير أن الحلفاء كانوا قد بدأوا يبسطون نفوذهم على جنوب البلاد. وكان جميع المناهضين للفاشية قد بدأوا يتجمّعون في البلاد لمحاربة الألمان الذين كانوا يحتلّون شمال البلاد. وكان أخ الشاب الذي سوف يصبح فيما بعد زوجاً لأختي ضابطاً في الطيران، وكان فاشياً، لذا كان الانصار يريدون معاقبته. ولدرء الخطر الذي كان محدقاً به، صعد الشاب الذي كان لا يزال طالباً في الطب إلى الجبال ليتحدث إلى الأنصار الذين قالوا له: «إذا أردت ضمان السلامة لأخيك، فإنه يتحتم عليك أن تظل بيننا»، وهكذا أخذوه رهينة، وفي وقت وجيز أصبح شيوعياً، وهناك في الجبال تعرف على أشخاص رائعين عرفتهم أنا بدوري، وقد طبعت تلك التجربة حياتي في ما بعد».

وعندما التحق بالجامعة، راح طوني نيغري يلتهم الكتب الفلسفية، الماركسية منها بالخصوص. ومع مرور الزمن اكتشف أن الفعل هو وحده الحقيقة، وهو يقول عن هذا الاكتشاف: «ان المعيار الوحيد للحقيقة هو بالنسبة لي الفعل، أي ذلك الذي يسمح لي بأن ألمس الحقيقة التي هي نفسها فعل، فعندما نقوم بفعل ما، فإننا نتمكن من تجاوز الوحدة، ذلك أن الفعل هو البحث عن الحقيقة. ونحن لا نخرج من التجربة الفردية لا بالفعل الذي ليس فقط عملاً عضلياً وجهداً جسدياً، وانما هو ايضا البحث عما هو مشترك بين الناس».

ويواصل طوني نيغري تحليله قائلا: «لقد تلقيت تربية اجتماعية شيوعية وعرفت النضال السياسي ومارسته، وبالنسبة لي ليس هناك حقيقة خارج ما هو مشترك، خارج ما يمكن أن يكون للجميع والذي يمكن أن يتحقق من خلال اللغة ومن خلال العمل والتضامن بين الناس. ان الحقيقة هي في نظري فعل جماعي لكائنات تعمل وتناضل لكي تتغيّر وتحدث تغيّراً في حياتها».

وكانت الانتفاضات الطلابية التي هزّت جميع أنحاء أوروبا في ربيع عام 1968، حدثاً مهماً بالنسبة لطوني نيغري. ومتحدثا عنها يقول: «أنا انتسب إلى أولئك الذين يعتقدون بأن احداث ربيع 1968 حددت العلاقة بين الحياة والفعل واحدثت تغييراً على المستوى التاريخي. وهي لم تكن ثورة كما يحب البعض ان يصفها، وانما اعادة اكتشاف لما تنتجه الحياة، ومن ثمّ، اصبحت الحياة نقاشاً بطريقة مغايرة، حتى الرأسمالية نفسها اصبحت مختلفة، مع ما أصبح يسمى بـ «العولمة»، ومع الاختفاء التدريجي للدولة ـ الأمة. البعض يقول إن ثورة الفكر الكبرى تحققت مع كارل ماركس ومع سيغموند فرويد، وهذا اعتقاد سخيف، ان التغيير الحقيقي حدث من خلال اعادة الحياة».

ثم جاءت السبعينات لتكون أهم انعطافة في مسيرة طوني نيغري النضالية والفكرية، فقد برزت منظمة «الكتائب الحمراء» الماركسية ـ اللينينية المتطرفة، وبدأت ايطاليا تعيش بسبب ذلك احداثاً ارهابية استهدفت بعض المؤسسات السياسية اليمينية المحافظة والعديد من المؤسسات الرأسمالية. غير ان طوني نيغري يحمل الدولة واجهزتها وايضا وكالة الاستخبارات الامريكية «سي. آي. إيه» مسؤولية تلك الاحداث الدامية ويقول: «اليوم أثبت القضاء الإيطالي نفسه ان وكالات الاستخبارات الامريكية وايضا الاستخبارات الايطالية كانت ضالعة في العديد من العمليات الارهابية التي نسبت آنذاك لليسار المتطرف المتمثل في منظمة «الكتائب الحمراء»، وكان هدف الدولة احداث الإرهاب، لماذا؟ لأن إيطاليا كانت محكومة من قبل الديمقراطيين المسيحيين، ولأنها تقع على الحدود مع الغرب، وفيها حزب شيوعي قوي ويسار له وجود قوي في المعامل والنقابات، فإنه كان يخشى عليها ان تصبح دولة اشتراكية. لذا، كان لا بد من احداث مناخ ارهابي حتى تبرر عمليات القمع ضد اليسار، خصوصاً منه ذلك الذي كان على عدم وفاق مع الحزب الشيوعي».

ويقرّ طوني نيغري بأنه تعاطف في البداية مع «الكتائب الحمراء»، ولكن عندما شرع انصارها في تدبير اعمال ارهابية، انفصل عنها، غير ان اجهزة الاستخبارات الايطالية أصرّت على أنه دماغها المفكر، وقامت باعتقاله بصحبة العديد من رفاقه وذلك يوم 7 ابريل (نيسان) 1973، وهو يقول عن ذلك: «قامت الشرطة باعتقالي مع ستين شخصاً ووجهت لنا تهمة إعداد تمرد عسكري ضد الدولة، وهي تهمة خطيرة للغاية تستوجب حكماً بالاشغال الشاقة المؤبدة، وكان ذلك أمراً مرعباً في حدّ ذاته. والشيء الذي كان مفارقاً في هذه الحالة، هو أن اليسار المتطرف وجد نفسه بين مطرقة الديمقراطية المسيحية التي هي حزب البورجوازية، والحزب الشيوعي الذي كان يرى أننا أشخاص خطيرون ذلك أنه كان عاجزاً عن ترويضنا واستعمالنا».

كانت فترة السجن مريرة وقاسية للغاية، غير أن طوني نيغري تمكن من ان يشارك في الانتخابات وان يصبح نائباً في البرلمان، وقد ساعده ذلك على الخروج من السجن، وعقب مرور فترة قصيرة على ذلك، شرعت الدولة متمثلة في احزابها السياسية اليمينية والمحافظة وفي اجهزتها الاستخباراتية في ملاحقته بهدف اعادته الى السجن من جديد، ولكي يتحاشى هذا الفخ الذي كان يعدّ له في واضحة النهار، فرّ الى فرنسا ليعيش فيها لاجئاً لمدة خمسة عشر عاما، وفيها ارتبط بعلاقات وثيقة مع العديد من مفكريها وفلاسفتها من امثال فيليكس غاتاري وجيل دولوز. وقد اعتبر الكثيرون من رفاقه القدامى هذا الهروب، خيانة لهم وللمبادئ التي كان يدافع عنها خلال السبعينات. وعن ذلك يقول: «شنّت الصحافة الإيطالية بجميع توجهاتها، هجوماً عنيفاً على ما سمّته بـ «الهروب» ونعتتني بـ «الجبان» وبـ «الخائن»، وكان ذلك أمراً سهلاً، إذ ان الإيطاليين يعتبرون كل عملية هروب خيانة، غير أن ما حزّ في نفسي كثيراً ليس تهجمات اليمين، بل غضب اليسار عليّ. وفي الحقيقة، كان الحزب الشيوعي يكرهني جداً ذلك أنني كنت رمزاً وانعكاساً للأزمة التي كان يتخبط فيها، ولأنه كان ملزماً باستخلاص العبر والنتائج من ذلك الوضع المتأزم الذي كان يعيشه. أما اليسار المتطرف، أو ما تبقى منه، فقد اتخذ موقفاً غير واقعي إطلاقاً، معتقداً أنه بإمكانه أن ينتصر في النهاية على خصومه، وأن يحقق الثورة المرتجاة. في حين اني كنت قد تحققت من الفشل ومن الهزيمة التامة لحركتنا».

في عام 1997، عاد طوني نيغري الى روما ليدخل السجن من جديد، واليوم يعيش تحت الإقامة الجبرية، وسيظل على هذا الحال حتى خريف 2003، وهو يقول عن وضعه الجديد: «أنا سعيد بالعودة إلى إيطاليا رغم العذابات التي ذقتها بسبب ذلك، ففي باريس، في شقتي الجميلة، كنت كمثل عصفور في قفص من ذهب».