«الفتى» أو «صاحبنا» (3) أنا عطيل

TT

فيما اتجه توفيق الحكيم وطه حسين وسهيل ادريس الى باريس والحي اللاتيني، اتجه لويس عوض أواخر الثلاثينات الى «كامبريدج». وفيما يغرق الحكيم وادريس وطه حسين في الرواية والحب، يغرق لويس عوض، كعادته، في الفكر والتأمل والتساؤلات. انه هنا من اجل البحث عن ابطاله من شعراء وكتَّاب ومفكرين. لكنه مثل مجموعة باريس، يحمل وطنه على كتفيه ومصر على جبينه. وهو يأسف، ويثور، لغباء وسذاجة الذين يطرحون اسئلة عن مصر وكأنها في الجاهلية. الا يدركون ان في القاهرة من الحضارة ما في لندن. وأسفاه.

لا يلجأ لويس عوض الى الرواية لاخفاء سيرته الذاتية ما بين الحقيقة والخيال. انها «مذكرات» مباشرة، عن رحلة بين الشرق والغرب. فريق ذهب الى «التجربة» الفرنسية في الادب والحياة، وفريق جاء الى التجربة «الانكليزية». وبعد 20 عاماً على وصول لويس عوض من القاهرة وجامعة الملك فؤاد يصل الطيب صالح، قادماً من جامعة الخرطوم، بطريق وادي حلفا. ليس من بيروت المتوسطية مثل سهيل ادريس، ليس من القاهرة، بل من حقول النيل والترع، والقرى الصغيرة المعلقة بين الطوب والقش، وقوارب الصيادين الصغيرة ومشهد الحيتان الميتة التي تطفو على سطح المياه. لقد جاء الطيب صالح الى جامعة لندن لكي يدرس التجارة، ولم يكن يدري عندما جلس يكتب «موسم الهجرة الى الشمال» انه سوف يضع اشهر رواية قرأها العرب في الستينات وربما في السبعينات ايضاً. فقد ذهب صيف 1960 الى قرية قريبة من «كان» وهناك شرع في كتابة رواية لا مخطط لها ولا هيكل. وبعد اشهر اكتشف انه وقع في فخها او في شباكها. وكان عليه ان يكمل ما بدأ. ويدخل الطيب صالح الصدمة مع الغرب حائراً ومحيَّراً. لكن خلافاً للسادة الذين ذكرنا سابقاً، فهو يكتب باسلوب روائي علمي محبوك. وسوف ينفي في مقابلات كثيرة لاحقة انه كان يعرف فن الرواية، لكن لا اهمية لذلك. لقد اتقن صياغة روايته مثل مهندس يبني بيتاً في عين الريح. طوبة طوبة. ويطلي هذا البيت من الخارج بطلاء مستورد غامض انيق، لكنه يفرشه من الداخل بسروج الحمير ويزينه بـ«شرابياتهم». ومثل شاعر الغابة، يذر خلفه تعابير الريف وعبق السودان وحكايات الفلاحين.

لكن ثمة اختلافاً اساسياً آخر بين الطيب صالح و«المسافرين» الآخرين. فأول ما يعلنه بطله «مصطفى سعيد» في وجه الفتاة الانكليزية: «انا مثل عطيل. عربي افريقي» ثم يعود فيؤكد «نعم، هذا انا. وجهي عربي كصحراء الربع الخالي ورأسي افريقي يمور بطولة شريرة».

ويصف لنا السارد صورة قريته على النيل: «مضيت اتسكع في شوارع البلد الضيقة المتعرجة، تلامس وجهي نسمات الليل الباردة التي تهب من الشمال محملة بالندى، محملة برائحة زهور الطلح وروث البهائم، ورائحة الارض التي رويت لتوها بالماء بعد ظمأ ايام، ورائحة قناديل الذرة في منتصف نضجها، وعبير اشجار الليمون، كان البلد صامتاً كعادته في تلك الساعة من الليل، الا من طقطقة مكنة الماء على الشاطىء ونباح كلب من حين لآخر، وصياح ديك منفرد احس بالفجر قبل الاوان، يحاربه صياح ديك آخر. ثم يخيم الصمت».

ثم هذا المشهد: «ها هي ذي بيوت القرية المتلاحقة من الطين والطوب الاخضر تشرئب بأعناقها امامنا، وحميرنا تحث السير لأنها شمت بخياشيمها رائحة البرسيم والعلف والماء. هذه البيوت، على حافة الصحراء، كأن قوماً في عهد قديم ارادوا ان يستقروا ثم نفضوا ايديهم ورحلوا على عجل». لا وصف للندن في «موسم الهجرة». لا وصف لبريطانيا، باستثناء لحظة الوصول عبر المانش الى «دوفر» حيث يكتشف الشاب الافريقي ان كل شيء منظم هنا حتى الغدران. لكن البطل بدلاً من ذلك يصف شخصياته من الانكليز. يصف طباعهم ومحاكمهم وهروبهم من اصدار الاحكام على الآخرين. حتى الرجل الذي فقد ابنته بسبب مصطفى سعيد، يريد ان يجد له مبرراً بشرياً. انه بلد الضعف الانساني، هذا البلد الذي كان يظنه مصطفى سعيد، بلد القهر الاستعماري. الصدمة هنا، صدمة مصطفى سعيد، ليست في ضعفه امام النساء بل في جبروته حيالهن. انهن ينتحرن من اجل هذا الافريقي الوسيم. اما هو فيترك كل شيء ويذهب في نهاية المطاف الى قرية على منحنى النيل في شمال السودان، من اجل ان يتزوج بنت محمود. هكذا تعرف النساء هنا. انها القبائل تسرح سعيدة. ومركب واحد يرسو على النيل ومعه العائدون. والاهل على حميرهم، جاءوا ليكونوا في الاستقبال.