تقرير الاعتراف العراقي والسلام العالمي

TT

تصطدم الولايات المتحدة الامريكية مع منظمة الأمم المتحدة التي اتخذت قرارا بفرض السرية التامة على التقرير العراقي المطول باللغة العربية الذي تضمنته اربعة وعشرون ألف صفحة لدراسته قبل اعلانه بحجة ان فقرات منه توضح طرق صناعة اسلحة الدمار الشامل لحجبها عن كثير من الدول، حتى لا يشاع تصنيعها بينها حفاظا على السلام العالمي بمنع وقوع كارثة انتشار اسلحة الدمار الشامل على المستوى العالمي، لانه لا يستقيم منطقيا محاربة وجود هذه الاسلحة ذات الدمار الشامل في حيزها الضيق بالعراق، ويفتح الباب لغير العراق من الدول لامتلاكها بعد معرفة طرق تصنيعها من خلال التقرير العراقي.

ترفض أمريكا هذا المنطق الذي تأخذ به الأمم المتحدة لشكوكها في مصداقية التقرير العراقي الذي تتضح معالم الكذب فيه من الخطاب الانفعالي الذي القاه وزير الاعلام محمد سعيد الصحاف نيابة عن الرئيس صدام حسين، الذي يصر على الاستمرار في موقفه وعدم تغيير مسلكه العدواني بمهاجمة النظام القائم في الكويت لتعاونه مع عسكر امريكا وبريطانيا ضده، وتقديم الاعتذار الى الشعب الكويتي عن غزوه لبلاده في يوم الثاني من اغسطس عام 1990 ويحرضه على الثورة واعلان المقاومة ضد القوات الاجنبية الامريكية والبريطانية، ومطالبا بأن تتخذ الحرب المرتقبة الطابع الوطني والقومي العربي ضدهما بدلا من محاربتهما للعراق وحده. وهدفه من ذلك تعقيد الاوضاع في داخل الاقليم حماية لنفسه حتى يبقى بالحكم في بغداد ويستمر النظام القائم في العراق.

تستدل أمريكا من مطالبة صدام حسين الشعب الكويتي بمؤازرته في محنته الكبرى باحتمالات الحرب ضده في وقت متزامن مع رفع تقريره المطول الى الامم المتحدة عن خلو بلاده من أسلحة الدمار الشامل، على عدم جديته في ما يقول بخطابه، وعدم مصداقيته في ما ورد بتقريره، ولذلك اخذت واشنطون تلح في طلب الامم المتحدة الاطلاع على التقرير المرفوع اليها من العراق بصياغته كما جاء، وبدون تدخل منها بالتحليل له، وكذلك على تقارير المفتشين الدوليين بالعراق عن اسلحة الدمار الشامل اولا بأول. لان قرار الحرب متوقف على معرفة حقيقة ما يحدث من مواقف في داخل العراق ليس فقط بالانصياع لقرار مجلس الامن 1441 الصادر يوم 9 نوفمبر عام 2002 وانما ايضا على المسلك العراقي الفعلي في تجريد نفسه من اسلحة الدمار الشامل، إما بالطرق السلمية القائمة اليوم وإما باللجوء الى السلاح في الغد، اذا ثبت تلاعب صدام حسين بالارادة الدولية المطالبة بتطهير العراق من اسلحة الدمار الشامل.

لا شك ان خطاب صدام حسين زاد من اسباب الشك والريبة عند امريكا في العراق الذي يحرض على فرض حرب عربية على المستوى القومي ضد امريكا وبريطانيا ومن يتحالف معهما، ولم يلتزم هذا الخطاب بما تم الاتفاق عليه في مؤتمر القمة العربية الاخير الذي عقد في مارس الماضي بالعاصمة اللبنانية بيروت الذي قرر حتمية اعتراف العراق بخطأ غزوه للكويت والتعهد بعدم تكراره، وتحويل هذا الاعتراف بالخطأ الى الاعتذار عنه من الشعب الكويتي دون الحكومة يوضح بيات النية على تكرار ما حدث من غزو اذا اتته الفرصة مرة اخرى طالما ان الحكومة ليست موضع ثقة عنده، وان النظام القائم بالكويت يفتقد للشرعية الايمانية بأن الكويت جزء من العراق، وهو الامر الذي دفع الحكومة الكويتية الى تقديم شكوى للأمم المتحدة ضد العراق جاء فيها ان صدام حسين تعمد في خطابه توجيه تهديدات مبطنة بالاذى للكويت. واخذ يحرض اهلها على القيام باعمال ارهابية فيها ضد النظام القائم بها، وضد القوات الامريكية والبريطانية التي جاءت بطلب من الكويت لحمايتها من الخطر العراقي، وطالبت الكويت في شكواها بتقديم الحماية لها من الخطر العراقي المتربص بها، باعتبارها دولة عضوا بالمنظمة الدولية للامم المتحدة.

خطاب صدام حسين بتطاوله على الكويت وتحديه لامريكا بدعوته الى حرب عربية قومية ضدها، زاد من تعقيدات الموقف الدولي ضد العراق، واضعف الجناح المعتدل نسبيا في داخل امريكا الذي يمثله وزير الخارجية كولن باول الذي لم يستطع التعاطف مع مطالب نظيره الروسي ايجور ايفانوف باستخدام كل الوسائل السياسية والسبل الدبلوماسية لتسوية المشكلة العراقية بالطرق السلمية، خصوصا بعد ان فضحت الصحيفة الالمانية «بيلد ام رونتاج» ما جاء في تقرير الاعتراف العراقي من وثائق تثبت بدقة تفاصيل مهمة عن امتلاك العراق لخطط كاملة تتعلق بانتاج السلاح النووي وغيره من اسلحة الدمار الشامل. وتوصلت الصحيفة الالمانية في تحليلها الى ان تجريد العراق من اسلحته ذات الدمار الشامل لا يكفي لحجب خطره الدولي ما لم يتم القضاء الكامل على هذه الخطط لانتاج هذه الاسلحة، وهي قضية صعبة في تنفيذها لانها تتطلب اخراج علماء العراق في اسلحة الدمار الشامل الى خارج وطنهم، وقد حاولت امريكا اخراجهم مع اسرهم وعرضت عليهم الجنسية الامريكية، ولكنها فلشت لخوف هؤلاء العلماء من بطش النظام العراقي بهم بعد ان اعلن في بغداد ان هؤلاء العلماء ثروة وطنية ومن يستجيب منهم للنداء الامريكي يوصم بالخيانة العظمى وما يترتب عليها من عقاب.

وجود الخطر النووي واسلحة الدمار الشامل لدى العراق مع احتمالات استمرارها عنده من بعد تجريده منهما من خلال امتلاكه لخطط انتاجها بواسطة علمائه في هذا المجال، دفع وزير الدفاع البريطاني جيف هون الى الاعلان في يوم 20 مارس عام 2002 عن استعداد بلاده لاستخدام الاسلحة النووية ضد الدول المتشردة، وقال بوضوح ولما كان العراق احدى هذه الدول المتشردة فإن احتمالات استخدام السلاح النووي ضده امر وارد في حساباتنا العسكرية، ولا يختلف الموقف الامريكي عن الموقف البريطاني من الاسلحة النووية، فالتقرير الصادر عن وزارة الدفاع الامريكية البنتاجون في بداية العام الحالي 2002 بعنوان «مراجعة الوضع النووي» أكد امكانية اللجوء الى السلاح النووي ضد عدد من الدول المالكة لاسلحة الدمار الشامل النووية وغير النووية ويأتي في مقدمة هذه الدول العراق.

هذا التوجه النووي في واشنطون ولندن ضد العراق يثبت انتهاء عصر الشلل النووي بالرعب منه في مرحلة الحرب الباردة الممتدة من نهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945 إلى سقوط الاتحاد السوفيتي في عام 1991، ويؤكد بداية ما يمكن تسميته الردع النووي باستخدام هذا السلاح المدمر ضد دول تمتلك هذا السلاح النووي، وينعدم عندها الاحساس بمسؤولية استخدامه مما يستوجب ضربها نوويا للقضاء على قدرتها النووية اذا نفذت امريكا وبريطانيا وعيدهما بضرب العراق نوويا استنادا الى الوثائق التي حدثتكم عنها «تقرير البنتاجون وتصريحات وزير الدفاع البريطاني جيف هون» فان جرمهما باستخدام السلاح النووي يفوق جرم العراق بامتلاكه للسلاح النووي، وهذا يتطلب موقفا دوليا صارما يمنع واشنطون ولندن من ارتكاب هذه الجريمة النووية فالاخطاء العراقية لا تعالج بخطأ افدح ضد الانسان وحقوقه في الحياة.