كذب صادق جدا!

TT

عادة عندما يشعر الرجل بأنه بالغ في الإساءة إلى زوجته، يستنجد بقليل من الكلام المعسول كي يغلب عليها النعاس، وتجدد استعدادها لاستقبال إساءاته القادمة حتما.

ومثل هذه العلاقة، التي باتت ترفضها عديد من نساء هذا الزمن، نرى أن المجتمعات الإسلامية مجبرة على قبولها والتورط في كافة شروطها، رغم أنه من المعروف والشائع المتوارث عن هذه المجتمعات، أنها تحمل ثقافة ذكورية شديدة الفحولة، بحيث أنها لا تؤمن إلا بالمتجسد وبالفعل القائم الذات وعلاقتها بالكلام المعسول تخضع إلى المزاج، وإلى طيب الخواطر.

ولكن بما أن أكثر الكائنات بلاغة في التعبير عن الضعف هي المرأة، فإن كل من تتهشم سطوته ويذهب ماله ومجده وقوته، يتحول بموجب الواقع الجديد إلى امرأة، حتى أن كابوس التحول إلى امرأة تحمل بطاقة هوية الضعف، أصبح يطارد الدول الضعيفة والرجال المهزومين والنساء اللواتي فشلن في محو ذاكرة لها حركة الطوفان!

ولو نظرنا إلى الجانب الرسمي في علاقة الغرب بالمجتمعات الإسلامية، لوجدنا أنها تنطوي على جملة من الحقائق قلما ننتبه إليها، لا سيما أننا نعيش حالة تقبل سلبية تجعل من الانتباه حالة مستحيلة. فالغرب المؤنث بمجرد أن يفتح ملف العالم العربي والإسلامي، فإنه يتحول إلى فحل شرس يمارس أشد الإساءات مع أنثاه الثانية!

ويحدث كل هذا مع محاولات ناجحة في تصدير تلك الإساءات إلى المجتمعات الاسلامية، قصد استبطانها نفسيا وثقافيا، فيصبح الطرف المصدر مستوردا، بل مدافعا عن الخير وعن الحضارة.

ولأن التكتيك القائم على الخداع والكذب، قصير العمر، وقليل الجدوى، فإن إفرازات الوضع قد انتهت إلى جملة من التناقضات شوشت راحة التكتيك الغربي، وأيقظت طمأنينته، ذلك أنه من غير الممكن تقمص دور الفحل في التعامل مع المجتمعات الإسلامية، والإدعاء في نفس الوقت بأن المجتمعات الإسلامية عوالم عنيفة وإرهابية.

إذ أن الغرب باتباعه سياسة الفحولة نسي أنه قد ألبس المجتمعات الإسلامية عباءة الأنثى، وأن تحقيق الثبوت لتهمتي العنف والإرهاب يستدعي إذكاء فحولة المجتمعات العربية، وعدم خنقها ومنحها كل فرص التجلي الجنسي، لا سيما أنه عندما تنسج الحضارات والدول على منوال علاقة الرجل السيئ بزوجته، فإنه لا وجود لحالات الوسط ولا لحالات الشذوذ، فإما أن تكون فحلا، وإما أن تكون امرأة، ومثل هذه الوضعية عرفها تاريخ البشرية طويلا، وكثيرا بعد أن فشل كل التاريخ في خلق علاقات متوازية ومتوازنة ومتجانسة!

بقي أنه لابد من الانتباه إلى المجتمعات الإسلامية وهي تنصت اليوم إلى بعض الكلمات المعسولة، من الرئيس الاميركي جورج بوش، ومن الإيطالي برلسكوني، بعد تداركه زلة لسانه، تدرك مجتمعاتنا أن عسل الكلام المنطوق به ليس بالعسل الطبيعي والحقيقي، لذلك فإنها تهطل على مسامعنا كالعلقم المر ولكن للقوة هيبة ووقعا يصيبان ألستنا بالشلل الأكثر قسوة من الخرس!

وطبعا عندما يحضر الوعي في حضرة الكلام المعسول، يدرك الذين عايشوا هذه التجربة، بأن الكلام المعسول يصبح استفزازا وشكلا من أشكال القهر البارد.

وكمثال يقاس عليه ولا يحفظ في خصوص الكلام المعسول، نذكر إشادة جورج بوش بالحضارة الإسلامية بمناسبة الاحتفال بعيد الفطر في المركز الإسلامي في واشنطن حيث تمنى لجميع المسلمين عيد فطر سعيدا، والتمتع بالصحة الجيدة، والسعادة والنجاح، وأضاف أن الإسلام أوجد حضارة غنية بالمعرفة كانت ميزة للإنسانية، مبرزا أنه في الولايات المتحدة الاميركية، يقدم مواطنون مسلمون مساهمات لا تحصى في مجال الأعمال والعلوم والطب والثقافة.

كل هذه العمليات المعسولة تتزامن مع عمليات إساءة يومية ومستقبلية للمجتمعات الإسلامية، بل أنه في اليوم الثاني لعيد الفطر تم استشهاد عديد من الأرواح الفلسطينية على يد الإسرائيليين الذين يتلقون الدلال والسلاح والمال من الولايات المتحدة، أي أن بوش في يوم عيد الفطر يتمنى للمسلمين السعادة والتمتع بالصحة الجيدة، والحال أنه بعد أقل من أربع وعشرين ساعة، يتم التنكيل بصحة المسلمين الفلسطينيين الجيدة ويتقبلون الحزن بدل السعادة المتوهمة!

خطاب يوجه كلاما معسولا إلى مليار وثلاثمائة مليون مسلم، في حين أن كل الممارسات تؤكد خداع المنطوق به تماما، كالرجل الذي يعلن عن عشقه المفرط ثم ينهال على حبيبته المتوهمة ضربا وركلا!

لذلك فإن أفضل حل للرئيس جورج بوش ولأصحابه في الكلام المعسول، هو الإمساك عن الكلام، وليعلموا بأنهم يمتلكون ممارسات أكثر بلاغة من بلاغة الجاحظ، وكل أعلام البلاغة في الحضارة العربية والإسلامية. كما يظهر بان كفاءة الغرب في الذكاء تتدهور أمام العالم العربي، وأغلب الظن أن هذا التدهور يعود أساسا إلى استخفاف الغرب بذكائنا لذلك فإنهم لا يبذلون مع غير الأذكياء ذكاء.

ويصبح تبعا لهذه المعطيات، من السهل الإدعاء شفويا بشيء ونفيه عمليا بأفعال مغايرة، ذلك أن الطرف المفعول به تكفيه ملعقة صغيرة من عسل مغشوش، بالإضافة إلى أنه لا داعي لإنتاج كلام وأفعال منسجمة وممنهجة، مع مجتمعات فوضوية بدوية، تعيش على السليقة، وتنبش في المزابل، بحثا عن قوت بائس يولد فقر الدم من الحرارة والغليان.

إن عبقرية ساسة الغرب الحديث تكمن في تحويل السياسة، من فن الممكن، إلى الكذب غير الممكن.

وليس المقصود بهذا الوصف تقديم شتائم أخلاقية للغرب وبالتحديد إلى أميركا، بقدر ما هو وصف تشخيصي لا أكثر وربما أقل. ومن غير الصعب القيام بعملية إحصائية لأرقام عمليات الكذب غير الممكن، تلك العمليات التي رغم صدقها في الكذب، فإنها تكشف سعي الإدارة الاميركية إلى فرض تقليعاتها على الإسلام ومعتنقيه، مما يدل على عدم احترام هذه الإدارة للحضارة الإسلامية، ذلك أنه من أولى علامات الاحترام عدم التدخل في الشؤون الخاصة وعدم الاعتداء والإساءة.

فهل يمكن أن نقول إن كلام بوش في المركز الإسلامي بواشنطن يوم عيد الفطر من نوع العسل الطبيعي والحقيقي، والواقع يقول إنه يساوي بين الإرهاب والإسلام، ويعبث بمقولات الجهاد والمقاومة والدفاع عن النفس محولا كافة حركات المقاومة الإسلامية إلى حركات إرهابية بما فيها «حزب الله» اللبناني، و«حماس»، و«الجهاد» الفلسطيني؟

ثم ما الذي يجعل بوش المعترف بقيمة الحضارة الإسلامية، يرفع راية العداء لأغلب الدول الإسلامية؟

إن العسل القليل الذي يظهره الأشقر بوش يخلو تماما من أي حلاوة، بالإضافة إلى أنه عسل يجلب الأمراض جميعها، على عكس العسل الذي نعرفه، وبلغت شهرته في الماضي والحاضر بأنه الدواء الشافي للداء الطاعن في المرض والوهن.

تحتاج أميركا إلى كثير من الضوء كي نراها أكثر، ونتمتع بوضوحها، وبوسع هذا الضوء الكثير أن يكون رهن إشارتها لو تجاوزت تصريحاتها المعسولة الاستفزازية، التي تجعل آذاننا وأبصارنا في حالة عراك مستمرة. فبوش يقول إنه يعترف للحضارة الإسلامية بوزنها، ثم تطلب إدارته من الدول الإسلامية مراجعة النظم التعليمية على اعتبار أن تدريس الدين الإسلامي يولد العنف والتطرف ويكرس التخلف.

ولا ندري أيضا، ما دامت أميركا تعترف بإسهامات مواطنيها المسلمين في المجالات العلمية والطبية والثقافية، لماذا قام أساتذة جامعة هارفارد بدراسة لاختزال عدد المسلمين في أميركا وتقزيمه من سبعة ملايين مسلم إلى مليون ونصف المليون!

أعتقد أن ارتداء القفازات يفقد كل معناه وجدواه عندما تكون القفازات شفافة جدا، لأن هذه الشفافية ستظهر الأيدي وهي ملطخة بدم أفعالها، لذلك فإن الاستطلاع الذي أعده معهد «بيو» وشمل أكثر من 38 ألف شخص في 44 بلدا، باح بالذي تخفيه أميركا، وهو أن صورتها تشهد تراجعا في الدول الإسلامية (في مصر 69% من الأشخاص عبروا عن نظرة سلبية لأميركا وفي الأردن 75% و70% في تركيا).

فهل يعود السبب إلى ارتداء القفازات الشفافة أو إلى ممارسة كذب صادق جدا!