«نهاية الإعلام»!

TT

صحيح ان العناوين القاطعة البراقة من ماركة «نهاية التاريخ» و«أم المعارك» باتت تثير السخرية، لكنني صراحةً لم استطع ان أقاوم إغراء عنوان «نهاية الإعلام» لهذه المقالة.

فالداعي، الفقير لله تعالى، مؤمن أشد الايمان بأن عصر الإعلام الحقيقي الأمين والمحايد انتهى... ربما الى غير رجعة. وصرنا كإعلاميين وكمشاهدين وقراء ومستمعين نقتات على فتات موائد التسريب والتضليل والتحريض... و«معلومات» المصادر الاستخباراتية!

ففي معظم ما نراه ونقرأه ونسمعه ما عادت الحقيقة جزءاً أساسياً من الخبر او التقرير.

هناك نوعان من تشويه الصدقية الإعلامية، هما التشويه غير المقصود، والتشويه ـ بل النسف ـ المتعمد. ولئن كانت ضرورات التقشف في الانفاق، معطوفة على مقتضيات عصر السرعة، قد زرعت في العديد من المؤسسات الاعلامية على مختلف المستويات والامكانيات وفي كل دول العالم، بلا استثناء، جيوشاً من المحررين المتوسطي الكفاءة المحدودي الأجور والمتشوقين لإعداد خبر سريع يسبقون به المنافسين... فيكسبون رضى السيد المدير، ففي المؤسسات الأكثر ثراء والاوثق صلات بـ«مطابخ» السياسة هناك ظاهرة أخرى.

فـ«الخبطة» الإعلامية وإن كانت تحتفظ بموقعها المميز مهنياً، تتقاسم الصدارة مع «المعلومة الحصرية» المستقاة عادة من «مصادر» في مطابخ القرارات الحاسمة. وهذه «المعلومات» ايضاً من نوعين اثنين: الأول، هو «المعلومات المنتزعة انتزاعاً» وهي عموماً صحيحة، بحكم طبيعتها (اي طبيعة المعطيات)، ومن ثم اعتماداً على مستوى مهنية وسيلة الإعلام المعنية وقوة شبكة علاقاتها مع اللاعبين المؤثرين. والثاني، هو «المعلومات المسرّبة تسريباً» وبصورة متعمدة او مقصودة، وهي في معظم الاحيان لا تكون صحيحة او دقيقة، لأن الغاية منها هي اما التضليل او التخويف او اختبار النيات او الالهاء لتمرير أمور أخرى. وهذا النوع، تمارسه الآن أكثر فأكثر حتى المؤسسات المحترمة والواسعة النفوذ، والسبب لأن الديمقراطية الغربية، ذاتها، فقدت في آخر سنوات الحرب الباردة الكثير من نزاهتها ونقائها. فما عاد يتحرج هذا الرئيس او تلك الحكومة من تخوين ما يعتبره إعلاماً «عدواً» لمجرد انه يتمتع بشجاعة المساءلة والتشكيك.

في بريطانيا أذكر جيداً الهجمات الشرسة التي شنتها حكومة المحافظين الثاتشرية خلال عقد الثمانينات على «هيئة الاذاعة البريطانية» (البي بي سي). وأذكر تماماً كيف شكك الوزير اليميني المتشدد نورمان (اليوم اللورد) تيبيت بـ«وطنية» «البي بي سي» وموضوعيتها عندما غطت المراسلة الممتازة كايت آيدي الغارات الانكلو اميركية على ليبيا. وفي فترة من حكم ثاتشر، اضطرت صحيفتا «الغارديان» و«الاندبندنت» لمقاطعة جلسات الإطلاع (Breafing) الدورية التي كان يعدها للصحافة برنارد اينغهام، الناطق الاعلامي باسم ثاتشر، بعدما اكتشفتا هدفي التدجين والاحتواء على حساب الرأي الحر المستقل.

والشيء نفسه حصل في واشنطن في عهد رونالد ريغان، بعدما لدغت الـ«واشنطن بوست» ريتشارد نيكسون وحزبه الجمهوري بكشفها «فضيحة ووترغيت». إذ تبنى ريغان وزبانيته سياسة محاربة الإعلام الليبرالي ورشقه بتهمة «خيانة الوطن»، وبلغ به العداء الى حد تشجيع صحيفة «واشنطن تايمز» اليمينية المتطرفة على تحدي الـ«بوست»، عبر التسريبات الحكومية من اعلى المستويات وتسهيل مهمة حصولها على اهم «الخبطات» والمقابلات والتقارير. وواصل ورثة ريغان في الادارة الحالية النهج ذاته في التلميح الى «نقص الوطنية» عند خصومهم الديمقراطيين.

طبعاً، في ايطاليا، اختصر سيلفيو برلوسكوني، رئيس الحكومة الملياردير مع حلفائه من الفاشيين الجدد والانفصاليين الشماليين، الطريق الشائك بطريقته الخاصة وملياراته... فأحكم سيطرته على الإعلام الايطالي ـ المرئي خصوصاً ـ عبر امتلاك معظمه فعلياً. وفي فنزويلا يلعب الإعلام المنحاز دور السلاح الأفعل في الحرب السياسية الدائرة حالياً. فالتلفزيون جزء اساسي من ترسانة معارضي الرئيس هوغو شافيز، الذين شكلوا تحالفاً عريضاً ضد «بطل الفقراء السمر»... يضم الأغنياء البيض والشقر، الذين يملكون وسائل الإعلام والذين يتلقون الدعم من الشركات الكبرى وصلاتها القوية في العاصمة كاراكاس وماراكايبو، عاصمة النفط الفنزويلي، بالاضافة طبعاً الى واشنطن.

وفي البرازيل، قبل ان تنضج ثمرة الاعتراض الشعبي وتسقط من تلقاء نفسها في حضن «لولا» (الرئيس الحالي لويس ايناسيو لولا سيلفا) لعبت امبراطورية «غلوبو» الإعلامية التلفزيونية دوراً حاسماً في تأجيل انتصاره سنوات وسنوات، بدعمها منافسيه من أحزاب اليمين المدعومة من القطاع الخاص وكبار الاغنياء البيض والشقر ايضاً. مع العلم انها اضطرت يوم 3 مارس (آذار) 2002 للدفاع عن نفسها ضد تهم التحامل والانحياز لحكومة اليمين، وهي تهم معروفة ومنتشرة في طول البلاد وعرضها منذ فترة طويلة. ولندع القارة الاميركية جانباً، إحتراما لـ«ميثاق مونرو»... هل تذكرون يا سادة يا كرام مصادر معلوماتنا عن حرب إسقاط طالبان في افغانستان؟ هل كان منها مصدر مستقل واحد حقاً؟

ألم تشتر الحكومة الاميركية لفترة حرجة من الحرب من مؤسسة «ايكونوس» الحق الحصري ببث صور الاقمار الصناعية؟ ألم تقتصر تقارير المراسلين على ما كانت تتصدق به عليهم «البنتاغون» والقوات المتحركة على الأرض، وفقاً لاعتباراتها، والحاجة لتجنب الالغام، وتحاشي التأثير سلباً على عمليات التقصي والمطاردة وتفجير المخابئ المفترضة؟

ولننس أفغانستان... ماذا عن الضفة الغربية في فلسطين؟ ألم تمنع سلطات الاحتلال الاسرائيلي وسائل الإعلام الدولي وموظفي الأمم المتحدة من دخول مخيم جنين، الا بعدما تدبرت أمره على صعيدي العلاقات العامة والتركيز الإعلامي المضخم المعاكس الذي استهدف قلة الدقة في تقديرات الفلسطينيين لعدد ضحاياهم؟ ألم ينته الأمر بالتعتيم على «مجزرة» بشعة اضطرت جهات دولية لاحقاً، بعد أخذ ورد، للإقرار بأنها كانت حقاً «مجزرة» وان كانت دون تقديرات الفلسطينيين ـ الذين كانوا اصلاً في وضع يستحيل معه عليهم تقدير حجم الخسائر بالارواح ـ؟

وهذه الايام، نعيش مهرجاناً إعلامياً، في موسم التحضير لحرب العراق الثالثة... فهي في لغة الأرقام ستكون ثالث حرب يتعرّض لها شعب العراق وأرضه منذ سبتمبر (ايلول)عام 1980 عندما قرر الرئيس العراقي محاربة «العدو المجوسي» في ايران!

الإعلام المرئي والمسموع والمقروء يصر اولاً على تزويدنا بتغطية شاملة فضفاضة تدفع الى الضيق أكثر مما تحفز روح التوق الى المعرفة والتدقيق. فمحطات التلفزيون، الفضائية منها والأرضية، تتحفنا يومياً بصور المناورات والحشود وتكنولوجيا «حرب النجوم»... ووسط كل هذا الصخب بالكاد تستوقف المشدوه منا تصريحات ومواقف، من هنا وهناك، كلها خطير وكلها تأجيجي وكلها ينذر برمي المنطقة الى الهلاك.

اما الصحافة المكتوبة، وأعني بالذات الصحافتين الاميركية والعربية، فحدّث ولا حرج عن العمق المغيّب والموضوعية المنسوفة.

أكيد هناك «سيناريو» سيفضى الى نتيجة ما، ويأمل كل طرف انه سيخدم ما يعتبره مصلحته. وأكيد انه لا وجود لميزان قوى في الحرب المرتقبة الا في مخيلة المراهقين الأغبياء او المضللين المحترفين. لكن رسم كل الحسابات السياسية على هذا الأساس من شأنه تغييب الحقيقة وتدمير البقية الباقية من صدقية الإعلام.

فليس صحيحاً اننا ملزمون اما ان نكون مع صدام حسين مئة بالمئة او مع «صقور» واشنطن مئة بالمئة. وليس صحيحاً ان من يقف ضد مشروع الحرب الاميركية «حليف حميم» للنظام العراقي. وليس صحيحاً ان من يستزلم لإسرائيل ويستقوي بـ«اللوبي الصهيوني» في واشنطن وبوسطن ولندن ونيويورك انتقاماً من نظام حكم جائر في بغداد... انما هو عبقري مناضل يقصّر البشر العاديون من أمثالنا عن إدراك مدى فكره الثاقب وإنسانيته الدفاقة!