العرب وأمريكا اللاتينية.. مقتضيات الحوار وخلفياته

TT

في أيامنا هذه التي يرفع فيها العرب شعار «حوار الحضارات»، ويحرصون على اختياره مسلكا استراتيجيا في مقابل نزعة الانكفاء والاقصاء التي تراد لهم احيانا من الداخل (من قوى التطرف)، واحيانا اخرى من الخارج (بفرض هذه الصورة على ثقافتهم ومنظومتهم القيمية)، يكاد يختزل هذا الحوار في الآخر الغربي، مع حصر صفة الغربي على اوروبا الغربية والولايات المتحدة الامريكية.

ولهذا الاختزال اسباب موضوعية لا غبار عليها، لا تحتاج للايضاح والتفسير بيد انه يعبّر عن نجاح المقاربة الغربية المهيمنة على فرض مفهومها للحوار الحضاري من منطلق مرجعية ومركزية الثقافة الغربية، باهمال الفضاءات الثقافية الجنوبية العريقة، التي تتداخل وتتقاطع مع نسيجنا الحضاري، وتطرح راهنا هموما واشكالات قريبة من همومنا واشكالاتنا.

ولذا جدر التنويه بمبادرة المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الالكسو) تنظيم اول حوار ثقافي عربي ـ ايبرو امريكي، التأم الاسبوع المنصرم بتونس بمشاركة خمسين مفكرا وباحثا وكاتبا من الاقطار العربية والبلدان الناطقة بالاسبانية والبرتغالية في اوروبا وامريكا الجنوبية. ولا ترجع اهمية هذا اللقاء لما عرف من اواصر تاريخية كثيفة بين هذين الفضاءين المتداخلين فحسب، بل ثمة اسباب اخرى لا تقل اهمية عن هذا البعد التاريخي المعروف بما فيه الكفاية، على رأسها التحديات المشتركة المتشابهة التي يواجهها وطننا العربي والعالم الايبرو امريكي، خصوصا المنظومة اللاتينية الامريكية، وقد لا يعلم الكثيرون ان الحضور العربي في امريكا الجنوبية يرجع، كما اثبتت الدراسات المقدمة للندوة الى ما قبل «اكتشاف» البحار الاسباني المغامر كريستوف كولومبس للعالم الجديد. وتفيد روايات كثيرة عن محاولات العرب العديدة لاستكشاف «بحر الظلمات» (المحيط الاطلسي)، وتذكر نجاح بعضهم في هذا المسعى، كما تؤكد ان الكثيرين ممن استقروا في العالم الجديد خلال الهجرات الاولى، كانوا من المورسيكيين اي عرب الأندلس. وهكذا انتقلت الحضارة العربية الاندلسية مبكرا الى امريكا الجنوبية، وتمثل تأثيرها في استجلاب اغلب الخضروات والفواكه والثمار التي ادخلها العرب للأندلس، وكذلك الحيوانات، فضلا عن تقنيات الزراعة والري والمؤلفات العلمية وفنون الرسم والتطريز والحياكة والتصميم المعماري (الفن المدجن حسب التسمية الشائعة). وكان للمورسيكيين الفارين من الاضطهاد الديني دور لا ينكر في المجتمع الجديد. ولا نحتاج للتذكير بوتيرة الهجرات العربية الحديثة الى امريكا اللاتينية، التي تمت خلال القرنين الماضيين خصوصا من بلاد الشام بمعناها الاوسع ويعتقد ان المتحدرين من اصول عربية في هذه المنطقة يصلون الى ثلاثة عشر مليونا، لهم حضورهم البارز في الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وقد وصل بعضهم الى موقع الرئاسة، كما هو شأن كارلوس منعم في الارجنتين، وعمر توريخوس في بنما، وعبد الله ابو كرم ونائبه «ضاحك» ثم الرئيس معوض في الايكوادور...

ومن الجلي ان الحضور العربي في هذا الفضاء لا يثير اشكالا ولا جدالا، كما هو حال الجاليات العربية في اوروبا، والولايات المتحدة بعد احداث 11 سبتمبر 2001.

ورغم ذلك، فان العلاقات السياسية بين المجالين هشة، ضعيفة، وقد تقلصت بوضوح بعد انحسار الصراع القطبي وضياع كتلة عدم الانحياز، وحجم التبادل الاقتصادي والتجاري لا يقل ضعفا. وقد تعرضت ندوة الالكسو لهذه الرهانات، وقدمت تصورا شاملا للتعامل معها، من خلال مبادرات ملموسة، في الجانب الثقافي والفكري، يتعين استكمالها من حيث الابعاد السياسية والاستراتيجية.

ومن ابرز التحديات المشتركة التي تقرب بين العالمين، وتستوجب توطيد الحوار بينهما:

ـ العلاقة بالنظام الدولي ونمط التموقع داخله، في مرحلة شديدة الخطورة، تتميز بمرور هذا النظام من الحقبة الانتقالية التي تلت نهاية الحرب الباردة (من 1989 الى 2001) الى منعرج انفراد الولايات المتحدة وسلوكها مسلك الهيمنة الاحادية من خلال مقاربة سيطرة تقليدية بالقوة والغلبة العسكرية. وكما هو معروف تتماثل الى حد بعيد (رغم الفارق الجغرافي) خلفية العلاقات بين بلدان امريكا اللاتينية (التي عرفت كما عرفنا طغيان اليسار الثوري والانقلابات العسكرية والتيارات القومية المعتزة بالأصالة الذاتية) والولايات المتحدة وعلاقاتنا بهذه القوة الكبرى التي اتخذت من المجال الشرق اوسطي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية احدى اهم دوائر امنها الحيوي.

ـ تحديات التكتل الاقليمي الذي كما هو في التجربة العربية مشروع معلق متعثر. وللتجربتين نقاط تشابه كثيرة من ابرزها: وحدة اللغة والثقافة والتاريخ بصفتها عناصر موضوعية للتوحد والتكتل، ودور العامل الدولي في اعاقة وعرقلة هذا التوجه.

ففي امريكا اللاتينية تشكل اول مشروع اتحادي عام 1821 باسم «الأقاليم المتحدة المكسيكية»، تلاه عام 1824 تكتل آخر باسم «كولومبيا العظمى»، وقد فشل وانهار التكتلان بتدخل مباشر من بريطانيا العظمى التي ورثت السيطرة الاسبانية، قبل ان تهيمن الولايات المتحدة، في مرحلة لاحقة، على هذا الفضاء المجاور لها.

ولا تزال دول امريكا اللاتينية التي يماثل عددها عدد الاقطار العربية (22 بلدا) تبحث عن سبل لتكريس خيارها الاندماجي، حتى من منطلقات اجرائية واقعية (المصالح الاقتصادية المشتركة والتكامل الاستراتيجي).

ـ اشكالات التحديث والتنمية المتماثلة بين الفضاءين العربي والايبرو أمريكي، على الرغم من اختلاف المقومات الثقافية والحضارية.

ولئن كان العالم الامريكي اللاتيني ينتمي من حيث المرجعية الدينية، والتاريخية الى الحضارة الغربية بمفهومها الأوسع، الا انه يتميز بوضوح عن الروافد الاوروبية والامريكية لهذه الحضارة، سواء من خلال عامل التثاقف والامتزاج القومي والديني بين الشعوب المتباينة التي يتشكل منها المجتمع الامريكي اللاتيني، او حتى خصوصيات ومميزات تلقي رعاية الديانة المسيحية المهيمنة بقوة على هذا الفضاء (من نماذج هذا التميز تيار لاهوت التحرر، الذي برز في امريكا اللاتينية في مرحلة تقهقر المسيحية في الغرب، وقد ادى دورا هاما في تحريك الساحة الثقافية والسياسية). كما ان ادب امريكا الجنوبية الذي اشتهر على نطاق واسع (اتجاه الواقعية السحرية في الرواية مثلا) عبر عن هذه الخصوصية، التي تؤكد تميز الثقافة الامريكية اللاتينية عن النموذج الغربي السائد.

ان اهمية ندوة الحوار الثقافي العربي ـ الايبرو أمريكي تعود اذن لتكريس خيار النقلة من «الحوار مع الآخر الى الحوار مع الآخرين» (حسب عبارة الكاتب الموريتاني عبد الودود الهاشم)، اي بلورة تصور شامل ومنفتح لاستراتيجية الحوار الحضاري، في ما وراء مطلب الحوار مع الثقافة الغربية، الذي يقنع في الغالب عوائق ومصاعب التفاوض السياسي مع القوى الدولية المهيمنة.