المصداقية والبيان الثقافي

TT

لماذا فقد البيان الثقافي اهميته وبريقه وصار مضحكة السلطات بعد ان كان قبل حين من الدهر يرعب السلطة...؟

السؤال مشروع زمنيا بعد انقضاء قرن وثماني سنوات على صدور اول بيان ثقافي عالمي أسس لسلطة المثقف، وسجل بداية التحولات النوعية في عمل المثقف المعاصر.

والبيان التاريخي المذكور صدر في الرابع عشر من كانون الاول ـ ديسمبر عام 1894، ووقعه آنذاك في باريس كل من ليون بلوم، ومارسيل بروست، واميل زولا واناتول فرانس، وآخرون من نجوم تلك المرحلة التي شهدت بواكير السلطة الثقافية المستنيرة التي لا تريد ان تزاحم السياسي، ولا تسمح له في الوقت نفسه ان يهمل قضايا الرأي العام.

وارتبط ذلك البيان كما هو معروف بقضية الضابط «دريفوس» «الموقعون ادناه يحتجون ضد الخرق القانوني لمحضر سنة 1894 ويحتجون ايضا على التعتيم المحيط بقضية «استرازي» ويلحون على مراجعة الحكم الصادر في حق «دريفوس».

واسترازي المشار اليه بالتعتيم هو العقل «المفبرك» لتلك المحاكمة الشهيرة في التاريخ الاوروبي الحديث، وقد هرب الى المانيا بعد ان اعيد التحقيق وتبين ان المثقفين وبيانهم كانوا على حق في وجود سلطة خفية تستغل القوانين لمصلحتها. فالقانون حمار جاهز للركوب يستطيع دائما ان يركبه من يعرفه او يعلفه. وقد كان ذلك البيان مفصلا تاريخيا في العمل الثقافي لكنه لم يولد من فراغ، فالجيل الذي وقعه، واصدره وضغط في سبيل عدالة واضحة وغير ملفقة كان غرسا لجيل اكاديمي رصين، وصاحب مصداقية جعل الجامعة في اوروبا على قدم المساواة في الاحترام مع الكنيسة، واحيانا اكثر منها، خصوصا حين تتعلق القضية بالمسائل الدنيوية. ومن مفارقات القدر ان اكبر رموز الجيل الاكاديمي الغارس لتلك الطفرة الثقافية التي اعطت المثقف احساسا مضاعفا بواجبه وقوته، وهو الفيلسوف الفرنسي «جول لانيو» مات في العام نفسه لصدور البيان، وكان كما يؤكد عارفوه التجسيد الحي للقيم الثقافية المرتبطة بالكبرياء والمسؤولية. وتلك لمن يعرفها سلطة المثقف الحقيقية، حيث لا عسكر عنده ولا مال ولا ميليشيات ـ إلا في بيروت طبعا ـ وكل ما لديه هو ذلك الاحساس العميق بالمسؤولية عن البشرية كلها، وذلك الاستعداد للتحدي في سبيل الافكار والمبادئ. أولم يقل سارتر لاحقا في تعريف المثقف انه ذاك الذي يقوم بمهام لم يكلفه بها احد.

ومن فرنسا الى اوروبا ثم الى العالم الثالث صارت البيانات الثقافية موضة قرن كامل، فهناك من يؤرخ لتراجعها بحرب الخليج الثانية ويجعل آخر واهم مراحلها حقبة الستينات من القرن الماضي التي انقرض بانتهائها الجيل الثقافي المشاكس الذي كان لا يكتفي بالتوقيع على البيانات انما يتظاهر، وينزل الى الشوارع ليتأكد من ان السياسيين سينفذون ما جاء فيها.

وطبعا كانت الثورة الاسبانية والثورة البلشفية من المراحل التي شهدت ازدهارا ثرا للبيانات الثقافية ولوحدة المثقفين الكونيين الذين قرنوا القول بالعمل، ففي الحرب الاسبانية كان هناك عدد كبير من الشعراء والرسامين والروائيين والفلاسفة الذين ذهبوا للدفاع عن الجمهورية وقيمها، وعادوا بخفي حنين وحسرة كبرى.

ومع الزمن الذي يسرق بريق كل الاشياء فقد البيان الثقافي بريقه، خصوصا مع نمو وتبلور سلطات قزحية في مختلف انحاء العالم تمثل خليطا من السياسيين والتكنوقراط والمثقفين. وحين وصلت الموضة الفكرية الى العالم العربي متأخرة كعادتها كانت تقاليد البيان الثقافي تبهت دون ان تغيب نهائيا، فالبيان في بعض الازمات الحاسمة يظل ضرورة تنفيس وتوضيح موقف وتحديدا لأولئك الذين يهملهم المجرى العام لوسائل الاعلام.

وكانت آخر موجة بيانات ثقافية نالت الاهتمام هي بيانات المثقفين الاميركيين ورد المثقفين السعوديين عليها، والغريب ان اوروبا ام البيانات وقفت متفرجة ـ باستثناءات قليلة ـ وكأن القضية المتفجرة التي تهدد العالم كله لا تعنيها، وكان موقفها ذاك احد الادلة على تراجع اهمية البيانات الثقافية في الحياة العامة.

ان البيان الثقافي والعربي تحديدا صار مثل قرارات الشجب والاستنكار التي تصدرها الجامعة العربية يثير الابتسام، والسخرية المبطنة وغالبا لا يقرأ لمعرفة الرأي العام العربي بأن المثقف في بلادنا لا يملك اية سلطة مادية او معنوية لحماية نفسه او غيره. والذنب ليس ذنبه، فطبيعة السلطات عندنا من النوع «الوحيد والاوحد» الذي لا يقبل اي شريك، ولا يستمع لاية نصيحة، فالسلطة عندنا كاملة القوة والمعرفة والاوصاف، ولا حاجة بها لذلك «الطنين الثقافي» الذي يصدره بشر هم من وجهة نظرها مدسوسون او مهووسون او ممسوسون، وفي كل الاحوال، فإن اهمالهم واستصغارهم هو الحل طالما ان مقاومتهم لا تتعدى صياغة البيانات المنمقة.