هل تحارب واشنطن الإرهاب أم تشجع عليه؟

TT

لا تكف الادارة الاميركية عن محاولة اقناعنا بأن الإرهابيين على حق، إذ تبعث إلينا كل حين دون أن تقصد برسالة تؤكد ان كراهية السياسة الاميركية هي الخيار الوحيد، وان الإرهاب هو الرد المناسب على ممارساتهم ومواقفهم، التي تنتهك ما هو متعارف عليه في القانون والأخلاق. في الاسبوع الماضي وحده قرأنا ان الرئيس الاميركي أعطى اذنا خطيا لوكالة المخابرات المركزية يصرح لها بقتل قائمة قيل انها تضم اسماء 25 شخصا ـ وربما أكثر ـ اعتبرتهم الولايات المتحدة زعماء الإرهاب في العالم. في واشنطن حددت الاسماء، وتمت الادانة، وتقرر اعدام هؤلاء، بصرف النظر عن جنسياتهم، وأمكنتهم أو سيادة الدول التي يتواجدون على أرضها. وهو الاعلان الذي صدر بعد ان قامت طائرة اميركية بدون طيار بقتل ستة أشخاص كانوا يستقلون سيارة في صحراء مأرب باليمن، بحجة ان واحدا من الستة كان من «الإرهابيين» المطلوبين، وتصادف انه كان من بين الآخرين الذين قتلوا معه شخص كان يحمل الجنسية الاميركية.

بعد ذلك بدأت اجراءات بتعميم وتصوير كل من تجاوز سن الثامنة عشرة، من رعايا 18 دولة عربية واسلامية المقيمين بالولايات المتحدة، والهدف من ذلك، كما ذكرت الصحف هو «تحديد الإرهابيين المحتمل ظهورهم في المستقبل» «الشرق الأوسط» 12/18)، ولأن المتخلفين عن تقديم أنفسهم سوف يتعرضون للمساءلة القانونية، فقد تزاحم آلاف المسلمين امام مكاتب ادارة الهجرة والتجنيس لكي يخضعوا لعملية التبصيم والتصوير والفحص، وفي الجولة الأولى التي شملت ابناء خمس دول فوجىء أكثر من ألف مسلم بعد ان قدموا أنفسهم وأوراقهم بمن وضع القيود في أيديهم، ورحلهم الى أماكن مجهولة كأي متهمين أو مجرمين، الأمر الذي أعاد الى الأذهان القمع الذي مارسته السلطات الاميركية إزاء اليابانيين المقيمين على أرضها، في أعقاب الهجوم الياباني على الاسطول الاميركي إبان الحرب العالمية الثانية.

الرد الفوري على ذلك الاجراء تمثل في المظاهرات الاحتجاجية والغاضبة التي خرجت في لوس انجليس مثلا رافعة شعارات تساءلت عن العدالة والحريات، وعن اللوثة التي أصابت الديمقراطية الاميركية. ولأن الحملة مازالت في بدايتها، فليس معروفا بالضبط على ماذا ستنتهي، ولكن القدر المتيقن انها سترسب مزيدا من الاستياء والغضب في أوساط المسلمين الاميركيين، الذين تنشط الآن الدعايات الاميركية التي تحاول اقناعنا بأنهم بخير وألف عافية، وانهم ينعمون بما نفتقده في بلادنا.

من ناحية ثالثة، وجهت هيئة محلفين اميركية فيدرالية في ذات الاسبوع اتهاما رسميا لاثنين من القيادات الفلسطينية وخمسة آخرين بأنهم قاموا بجمع أموال لحركة المقاومة الاسلامية حماس التي تتهمها واشنطن بالإرهاب، والاثنان هما موسى أبو مرزوق رئيس المكتب السياسي السابق لحركة حماس، وغسان العشي رئيس مؤسسة الأرض المقدسة للاغاثة والتنمية ومقرها تكساس. وحسب اعلان هيئة المحلفين فانه تم توجيه 33 تهمة الى الاشخاص السبعة. وقال وزير العدل الاميركي انه في حالة ثبوت التهم عليهم فان الواحد منهم يمكن أن يعاقب بالسجن لمدة تصل الى ثلاثين عاما، وقد يعاقبون بغرامات يمكن أن تصل الى 7.2 مليون دولار.

وهو يبرر هذه الحملة قال جون اشكروت ان منظمة حماس التي وصفها بالإرهابية تبنت اعتداءات أدت الى مقتل مئات الأبرياء في اسرائيل والضفة الغربية بينهم نحو عشرين اميركيا، وأضاف ان الولايات المتحدة ستتعقب أمثال اولئك الاشخاص الذين يمولون «الإرهاب» وستتعامل معهم بمنتهى القسوة.

اللافت للنظر في هذه القصة ان السيد ابو مرزوق كان قد اعتقل في الولايات المتحدة، وجرى التحقيق معه في شأن تمويل «الإرهاب»، ولم يستطع القضاء الاميركي ان يثبت بحقه أي شيء، فأفرج عنه ورحل من الولايات المتحدة في عام .1999

ثمة سؤالان يخطران على بال المرء وهو يتابع أمثال تلك الاخبار، الأول هو: كيف تتوقع الادارة الاميركية تصور المسلمين وهم يقرأون هذا الكلام؟

ان القصص الثلاث التي مررنا بها تجسد مواقف اميركية مسكونة بالازدراء والقهر والتحيز، ضد العرب والمسلمين، ولصالح اعدائهم الاسرائيليين الذين حولوا قتل الفلسطينيين إلى طقس يومي، لم يرد أن يذكره السيد أشكروفت، ولا أشار اليه بحرف واحد. وازاء شيوع تلك الانطباعات في المحيط العربي والاسلامي، فان ذلك يخفف كثيرا من النقمة على الإرهابيين الذين استهدفوا المصالح الاميركية، وهي النقمة التي بلغت ذروتها إبان الهجوم على برجي مركز التجارة العالمي، لكنها تراجعت تدريجيا بعد ذلك، لان الحماقات الاميركية أدت الى تآكل التعاطف العربي والاسلامي.

وإزاء الشعور العام بالعجز، وعدم توافر قنوات كافية لتنفيس مظان الغضب والاستياء في بلادنا، فان هذا الوضع أفرز بعضا من التعاطف مع الإرهابيين، باعتبار انهم أوجعوا الاميركيين مرة، في مقابل مسلسل الوجع المتداخل مع الازدراء الذي ينزله الاميركيون بالعرب والمسلمين طيلة الوقت.

من أسف ان الممارسات الاميركية التي اهدرت قيم القانون والعدل والاخلاق هي المسؤولة عن ذلك التحول، الذي لاينبغي ان يحمل بحسبانه تأييدا للإرهاب أو تعاطفا معه، بقدر ما انه تعبير عن الاستياء إزاء تلك القدر الملحوظ من الازدراء والمهانة الذي يتعامل به الاميركيون مع شعوبنا وحقوقنا.

أما السؤال الثاني الذي يخطر على بال المرء وهو يتابع الأخبار المذكورة فهو: أين الحكمة في التعمد الاميركي لتوسيع نطاق المواجهات واشعال الحرائق كل حين؟ ان من يتابع الممارسات الاميركية بعد 11 سبتمبر يلاحظ ان الادارة الحالية خاضت معركة في افغانستان لايزال ملفها مفتوحا حتى الآن، حيث الوضع المستجد لم يستقر بعد والاشتباكات مع القوات الاميركية لم تتوقف، في الوقت ذاتها فانها اعلنت ما سمي بالحملة الدولية ضد الإرهاب، التي فتحت ملف آخر لمواجهات أخرى لا حدود لها بطول الكرة الارضية وعرضها، وكانت لها تجلياتها المشهودة في باكستان واندونيسيا وكينيا واليمن، وما لبثت بعد ذلك ان فتحت ملفا السودان وخاضت معركة لي الذراع ضد حكومة الخرطوم لصالح التمرد الجنوبي بقيادة جون قرنق، ذلك بطبيعة الحال غير الملف الفلسطيني المفتوح الذي كان كل تدخل اميركي فيه هو ضغط اضافي لصالح الاحتلال والاطماع الاسرائيلية، أما الملف العراقي الذي انفتح أو كاد، والحرب التي لاحت نذرها في الأفق، فهو قصة أخرى دالة وحدها على المدى الذي وصل إليه تغييب العقل والحكمة لدى الادارة الاميركية.

لايستطيع المرء إلا ان يصف هذه الممارسات بكونها حلقات في مسلسل عبثي افرزه غرور القوة وسوء تقدير القابضين على مفاتيح تلك القوة، وأقول «سوء تقدير»: تأدبا، لان المشهد يحتمل أوصافا اخرى اترك اطلاقها لفطنة القارئ.

ان الممارسات الاميركية الطائشة تذكرنا بقصة الفيل الذي أصابه الهياج ودخل معملا للفخار، فما وضع قدما في مكان إلا وأشاع فيه الاضطراب والدمار، وهو ما ضرب الثقة في جدارة واشنطن بقيادة العالم، الذي ادخلته الممارسات الاميركية بعد انتهاء الحرب الباردة في نفق مظلم، لايكاد يرى ضوءا في نهايته.

اللافت للنظر ـ والمدهش حقا ـ انه بينما تتواصل الممارسات الاميركية على النحو الذي مررنا به، وبينما يواصل من يسمون بالصقور في ادارة الرئيس بوش اشاعة القلق والاضطراب من جراء فتح الملفات دون اغلاقها، اطل علينا وزير الخارجية السيد كولين باول في الثاني عشر من الشهر الحالي ببيان وصفه بحسبانه «مبادرة المشاركة من أجل الديمقراطية والتنمية»، تنطلق من التسليم بأن الاخطاء والمشاكل كلها نابعة من واقعنا وبلادنا وناسنا، وبالتالي فان اصلاح العوج في حياتنا هو الذي يحل مشكلات الأمن والاستقرار الذي تنشده الولايات المتحدة، وهو تشخيص أقل ما يمكن ان يقال فيه انه ينم عن فقر في معرفة المنطقة وجهل بأوضاعها، وعدم ادراك تداعيات السياسات الاميركية الطائشة.

تاريخيا، سيسجل التاريخ ان الولايات المتحدة حين استفردت بصدارة العالم أدت أكبر خدمة للإرهاب والإرهابيين، لانها أثارت تعاطف الناس معهم، ثم انها لقنت آخرين كثيرين كيف يكون الإرهاب على أصوله.. وا أسفاه.