المثقف والفقير (3)

TT

عندما دخلت كلية الحقوق دخل معي شاب عصامي زاملني في الدراسة الابتدائية، حنون عبد. انحدر من عائلة شرقاوية فقيرة. رأيته بضع مرات ثم اختفى عن انظاري. بعد بضعة اسابيع دوت ضجة في الكلية بأن حنون عبد قد مات جوعا. تطوع التلامذة لجمع تبرعات لأسرته المعدمة.

مرة اخرى واجهت محنة الفقر. شاب عصامي في ربيع حياته، تلميذ جامعي يدرس القانون والحقوق يقبع في بيته عدة ايام لا يجد ما يأكله ويخجل ان يخرج ويستجدي في الشارع. يموت جوعا في بلد الخيرات. أي بلد هذا البلد الذي يموت جوعا فيه مثقف جامعي؟ ما الذي يعنيه الوطن والوطنية والقومية والعروبة والحرية والتحرر والاستقلال لأخوته الصغار وامه المطلقة الذين تركهم وراءه ورحل؟

لا شيء غير ان نقلب هذا المجتمع المبني على الأستغلال والقسوة والظلم. اعتنقت الاشتراكية ودرست الماركسية وانتهيت بالانضمام للحزب الشيوعي منبهرا بشعاراته «الخبز للجائعين والعمل للعاطلين»، «سنعلن الثورة.. انا نريد، حكومة حرة وشعبا سعيدا». بانخراطي في هذا النضال عرضت حياتي للموت ومستقبلي للسجن من اجل خبز الجياع.

مرت الأعوام وجاء انقلاب 1958 وسيطر الشيوعيون على مقدرات البلاد. وانفجرت الفقاعة. اظهروا من القسوة والبطش والقمع الدموي ما لم يعرفه العراق من قبل. وتبارى قادته وانصارهم في الجري وراء المناصب والنفوذ والمحسوبيات والانتهازيات. الناطق باسم الكادحين، عامر عبد الله يحتفل بزواجه في فندق بغداد في ليلة تدفقت فيها الشمبانيا والفودكا انهارا.

ويلمها خطة ويلم قابلها لمثلها خلق المهرية القود

والمهرية القود كانت الطائرة التي اخذتني من بغداد الى بريطانيا، حيث تعلمت ان ما جرى في العراق كان شائعا بين قادة اوربا الشرقية. وهكذا جاء الانقلاب الثاني في تفكيري. وداعا لك يا حزب الكادحين. كلا، لم يجد الفقير الخبز في اكنافك.

مر انقلاب بعد انقلاب حتى اختتمت السلسلة بانقلاب 1968 البعثي الذي هاجمته بقسوة في الصحافة البريطانية وتوقعت من ورائه عهدا جديدا من الارهاب الأسود. بيد ان الانقلاب النفطي لعام 1973 تدفق على العراق بالخير والبركة. ازدهرت بغداد بشكل لم تعرفه منذ ايام هرون الرشيد والمأمون. اهاب النظام بالمهنيين في الخارج بأن يمدوا ايديهم للمساهمة في بناء البلاد فمددت يدي. لم اتطلع لأي كسب ولا حظيت بأي مكسب. كان انقلابا آخر في ذهني من اجل خير المعدمين. اعجبت بالاصلاحات الاجتماعية والحقوق والخيرات التي اخذت تنساب في جيوبهم. في زيارة لبغداد هزني منظر المرأة العراقية الفلاحة تتعهد حدائق الورد بثياب نظيفة وعلى قدميها حذاء. كانت ايام صدام حسين في ابهى لمعانه.

ماذا عن الديمقراطية وحرية الفكر وحقوق الانسان؟ اسأل تلك الفلاحة ما الذي يعنيها منها. الحذاء الذي على قدميها اهم لديها ام نشر قصيدة حداثية لا تفهم كلمة واحدة منها؟

كل شيء في منظور الفقير المعدم ومن زاويته. هذا كل ما يعنيني من عالم السياسة والفكر. ما وقع الشيء، أي شيء، على الضعيف المعدم؟

ولكنني الآن انظر الى الوراء واقول، لقد كنت مخطأ. فانعدام الديمقراطية وحرية الفكر والنقاش، تركت النظام العراقي في عمى من أمره. أصبح سفينة تجري بدون رادار وبدون بوصلة تصحح المسار وتحذر من الاصطدام. فاصطدمت. وكانت حرب الخليج الأولى، حرب التقديرات الخاطئة.

كانت غلطة. وتحملناها. وشكرنا الله على تجاوزها. الوقوع في خطأ شيء مؤسف ولكن الوقوع بنفس الخطأ مرتين شيء مقرف. جاءت حرب الكويت فرمت بلقمة الخبز من يد الجائع، فان لي ان اقول وداعا يا عراق صدام. ودخلت في انقلاب جديد في تفكيري.