بيزنس الشارع

TT

أصبح الشارع العربي الآن مصدر دخل غير محدود لكثير من المحللين وشركات الدعاية في واشنطن وحري بنا ان نعرف الجوانب العديدة لهذا البزنس الجديد وما الذي يجعل الاميركين اكثر استماتة في الدفاع عن الشارع العربي من نظرائهم العرب.

واحدة من مصادر التربح ودرّ الاموال واستجلابها الآن في واشنطن هي ما يسمى بالدبلوماسية العامة التي تهدف الى تسويق السياسة الاميركية للشارع في العالمين العربي والاسلامي. وبما ان الحكومة الاميركية تدعم هذا المشروع بالمال، نجد العديد من المؤسسات ومراكز البحوث مشغولة بتطوير برامج تجذب جزءا من هذا المال «السايب» تجاهها. فإذا ما احصى الفرد عدد البرامج المختصة الآن بمسألة الشارع، من «الودرو ولسون انستتيوت» الى معهد «بروكنز» الى مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك، الى مجلس بلتيمور وشيكاغو وايوا كلها برامج متخصصة في دراسة الشارع. وقد حضرت كثيرا من الجلسات «الشوارعية» هذه، ولم أجدها اكثر من كونها «بيزنس» صغيرا، لا اعتقد انه سيقدم أي توصيات مفيدة لصانع السياسة الاميركي، واعتقد ان القائمين على هذه البرامج انفسهم يعرفون ذلك تماما، ولكن لا غرو ان كانت هذه الجلسات تدر على هذه المؤسسات مالا كان شحيحا قبل 11 سبتمبر 2001.

هذا فيما يخص المؤسسات التعليمية، اما شركات الدعاية فحدث ولا حرج، اذ يطل علينا برنامج الدبلوماسية العامة بصورة عن العرب الاميركيين الذين قدموا انجازات في المجتمع الاميركي لكي يعرض هذا البرنامج في باكستان واندونيسيا، وكأنما الاندونيسيون او الباكستانيون سيسعدون بنجاح العرب في اميركا، المهم هو ان الشركات المنتجة لهذه الاعلانات ربحت اموالا طائلة من بيزنس الشارع.

ولذلك نجد هنا في اميركا دفاعا مستميتا عن «الشارع» من بعض الاميركيين وكأنه شارعهم، ولا عجب، فوجود «بعبع» الشارع يدر اموالا لا تنتهي على شركات الدعاية، وكذلك على المعاهد والجامعات. لذا سيبقى الشارع العربي والاسلامي محل بحث، البعض يقيس درجة غليانه من خلال الاحصائيات والبعض الآخر من خلال قراءة الطالع والرسائل الضمنية التي يرسلها الشارع بصفته هو «الوعي التاريخي الاجتماعي» للمجتمعات، الى آخر هذه التخريجات التي يعلم اصحابها انها زور وبهتان. هذا بالنسبة لاميركا التي لا اظن انها ستترك الشارع في حاله حتى تحلب الشركات الدعائية آخر دولار في هذا البند الخاص بالشارع في الوزارات المختلفة في الادارة الاميركية.

اما بيزنس الشارع في العالم العربي فهو حكاية في حد ذاته، موضوع تائه تستخدمه بعض الحكومات مرة لتخويف الاميركان، وتستخدمه المعارضات لتخويف الحكومات. يستخدمه الصحفيون العرب ايضا عندما تغيب الحقائق المادية التي يفترض ان القصة الاخبارية تتكون منها، ولكن في ظل غياب المعلومات يكون الشارع هو المنقذ الوحيد، لتحل العبارات المطاطة محل المعلومات.

الصحيفة تخاطب الشارع والتلفزيونات تصرخ في الشارع، والجميع يعرف ان الشارع ليس معه او حتى مع غيره، لقد اصبح الشارع وهماً يؤمن به الجميع. انه «البعبع» الذي يجعل المنافس، ان لم يكن خائفا فهو قلق على الاقل. الصحف والمحطات الشوارعية لا تعد ولا تحصى، من هنا يكون بيزنس الشارع في عالمنا ليس أقل رواجا من بيزنس الشارع في واشنطن، وان كانت اتعاب بيزنس الشارع في واشنطن هي اتعاب رجال الاعمال، فهي في العالم العربي مجرد بقشيش، او اتعاب البواب.

الحقيقة المرة هي ان الشارع ترك الجميع. الشارع ادار ظهره لاميركا وللعرب معا. الشارع يسير في حاله، يتفرج على هؤلاء وهم يبيعونه لبعضهم البعض، تارة كغول مخيف، وتارة كبارقة أمل حسب ظروف السلعة وحسابات المكسب والخسارة في اللحظة السياسية المحددة. في هذا الجو المليء بالمراهنات على الشارع، أود ان اسجل رهاني وتوقعاتي بخصوص الشارع التي ازعم انها تكهنات صادقة، ليس في هذه الحرب وحسب، وانما في الحرب التي تليها ايضا.

اربع ملاحظات اساسية الخصها في التالي:

1 ـ الاميركان لن يضعوا في اعتبارهم مسألة الشارع في حسابات الحرب المقبلة، لانهم يعرفون انه بيزنس صغير، وان الاصل في العالم العربي والاسلامي هو الحكومات والدبلوماسية التقليدية، ومتى ما وافقت الحكومات على سياسات بعينها فإنها ستجذب معها مجتمعاتها، كل حكومة ستأتي وشارعها معها.

2 ـ الدخول في موضوع الشارع سيعقد الامور، ذلك لان للدول حساباتها، فإذا اخذت اميركا الشارع العربي في الحسبان، فلا بد لها ان تأخذ في الاعتبار الشارع الروسي والشارع الصيني، وشوارع كثيرة لا تعد ولا تحصى، هذا بالاضافة الى الحارات والازقة خلف الشارع، وكذلك البدروم ايضا.

3 ـ الشارع العربي لم يغير محليا، فمن أين تأتيه القوة كي يغير عالميا. وهل من المعقول ان تحسب اميركا حسابا للشارع، وتترك رأي الدول النووية وتضعه في المرتبة الثانية؟ هل يعقل ان يوضع الشارع في الحسبان وتتجاهل اميركا روسيا والصين والدول الكبرى؟.

اعتقد ان اي دارس لعلم السياسة، او حتى اي ملاحظ عام يملك حدسا نظيفا وصافيا سيقول لك ان الشارع ليس هو الاساس، وان كان مع اميركا أدلة فهي ستشارك بها روسيا والصين وفرنسا وبريطانيا اولا قبل ان تفكر في الشارع.

4 ـ متى ما اندلعت الحرب سنرى اربع مظاهرات، واحدة في المغرب، وثانية في الازهر او الحسين، وثالثة في بيروت، وربما عشرة افراد في جدة، ولكن معظم المظاهرات ستكون في الشارع الغربي الحر: المهاجرون يتظاهرون امام البيت الابيض وداونينج ستريت، وحركات السلام في نيويورك، والخضر في المانيا، والمثليون في باريس، وكثير من النساء ايضا. ما عدا ذلك سيكون الغضب العربي محصورا في مجموعة مناوشات في المقاهي بين المثقفين قد تصل الى التراشق بالكلمات الجارحة، او حتى التشابك بالايدي، اما التراشق على الفضائيات فلن اتحدث عنه ذلك لانه يقع ضمن بيزنس الشارع، ذلك البيزنس الصغير، ذو الاهتمامات المحدودة والتي هي شخصية في المقام الاول.

الذي لا يعرفه المهتمون بالشارع هو ان هناك في العالم العربي الآن ثورة عقلانية هادئة، اكاد أجزم انها اهم ثورة في هذا القرن، اغلبية تضحك من العرض الذي تراه امامها، اغلبية تشاهد البرامج السياسية على انها برامج فكاهية من انواع الكوميديا السوداء، هذه الاغلبية ادارت ظهرها لاميركا ولصدام منذ زمن، كذلك ادارت ظهرها لمؤسساتها المحلية، هذا البعد الثالث للمجتمعات الذي يتحرك حسب مصالحه فقط، يعمل خلف شاشات الكمبيوتر، وقلما ينزل الى الشارع الا للضرورة ولا يأبه بالشوارعية.

ولنا لقاء بعد نهاية الحرب لنتأكد من صدق ما قلت، قول سيصدق ليس في هذه الحرب فقط وانما ايضا في الحروب التي تليها.