فيروز الانقلابية (1 ـ 2)

TT

لملمت ذكرى لقاء الأمس بالهدب

ورحت أجمعه في الخافق التعب

احترام الاسئلة الذكية موهبة وضرورة، فالنفوس الكبيرة المشعة تسأل من وزن طبيعتها وقد ارهقني الاستاذ حسني ملكة من امري عسرا باسئلته عن فيروز والارث السياسي الرحباني ولا بأس من استعارة الغزل للسياسة للتبرم الايجابي والتعجب على الطريقة الفيروزية:

يا أمي وما بعرف ليش نقاني أنا

وعرفت او لم اعرف قرأنا التساؤلات الملكية ولا بد من مفاتيح تومئ وترمز للاجوبة اما الجواب الحقيقي فيظل ملك صاحبه، خصوصا حين يتعلق بطبيعة الالتزام الحزبي في منطقة متوترة، قلقة، متبدلة السياسات والاهواء.

وان تكون اغاني فيروز ذات طبيعة انقلابية، مسألة مثبتة لا تقبل الجدل الباهت، ولا تمحك النفي الضعيف، لكن هناك فرقا بين «الانقلابية الفكرية» و«الانقلابية العسكرية»، اما ان كانت اغاني الرحابنة قد وضعت قصدا في خدمة التفكير الانقلابي العسكري في سورية وتحديدا بين عامي 1952 ـ 1954، فهذه مسألة عويصة، لكن السؤال يظل مشروعا في كل الاحوال، فقد لحن الرحابنة فعلا وغنى مطربوهم، وليس فيروز وحدها، للطيران والبحرية والمشاة وكان نشيد المشاة هو الاسرع للبث بعد كل انقلاب، ربما لأن معظم الانقلابات السورية كانت تأتي من ألوية المشاة وفيالقهم قبل ان ينحدر حتى مستوى الانقلابات، ويصل في ايام حيدر الكزبري الى حرس البادية.

وذاك النشيد له طابعه الوطني البطولي الذي يربط امجاد الجيش بمعركة ميسلون:

وعند الحدود وفي ميسلون

لنا ذكريات

بطولات جيش تحدى المنون

ليبني الحياة الحياة

وأحيا على الارض عبر القرون

شعار المشاة

وقبل الدخول في التفاصيل يستحسن ان نلاحظ ان لبنان كان حديث عهد بالاستقلال في الخمسينات، ولم تكن نخبه الفكرية والسياسية قد استوعبت استقلاله عن سورية، لذا كانت الاغنية الرحبانية والقصيدة الجبرانية تحكي عن سورية بمعنى سورية الكبرى وفي اطارها لبنان:

يا سورية

إنّا هنا للموعد

لك الربى

لك الذرى

هيا اصعدي

ومن شعراء تلك المرحلة الذين كتبوا الاغاني الرحبانية مادحنا بالامس وشاتمنا اليوم الشاعر الكبير سعيد عقل الذي ظل يغني لبردى حتى جففه واستدار لأنهار اخرى منها القسم المتحول من نهر الاردن الذي نشأ بعد ان اطلقنا شعار «نهر الاردن مابيتحول» ولولا شمعون بيريز ما سمعنا عن طموحات سعيد عقل لمناطحة كبار المطبعين والقاء كلمة في الكنيست الصهيوني يعتذر فيها ربما عن بردياته وانقلابياته، وقاسيوناته حين كان يطل هو وغيره من ذرى قاسيون ليرى دمشق وهي تعانق الشهب في زمن عجب، واعجب ما فيه اننا وبسرعة فائقة وصلنا من النقيض الى النقيض، ولم يعد احد يخجل من ماضيه ولا يبذل اي جهد ليخفيه لان الجماهير العربية وكما قال فيلمون وهبي ذات يوم غفورة وصدرها واسع.

وهيلا ياراجع... الى تلك الايام الخضر والحمر، اطرب، وتحسر وتذكر ان الحقبة التي نحكي عنها لم تكن قد شهدت زواج فيروز من عاصي، فذاك تاريخه عام 1955، وكان اول لحن من عاصي لفيروز سنة 1951 يعني لا مانع من التدقيق السياسي فيمن تعاملت معهم المطربة الانقلابية ذات الاسم الثوري «نهاد وديع حداد» المعروفة باسم الشهرة فيروز، وهؤلاء اذا استثنينا مكتشفها استاذ الموسيقى سليم فليفل كان لهم مثل كل فنان حقيقي ميولهم السياسي داخل بلد يمور بالتيارات اليسارية، والقومية ويجد في الطبقات الفقيرة المنجم الذي لا ينضب، ففيروز نفسها ابنة عامل في مطبعة «لوجور» البيروتية واول محفوظاتها كانت خلطة وطنية على رومانسية، وفي المأثور والمعروف من بداياتها انها حين قدمت الى حليم الرومي الذي كان يرأس قسم الموسيقى في الاذاعة اللبنانية وطلب منها ان تسمعه بعض ما تحفظ غنت له موال الانقلابية التي سبقتها واتهمت بالجاسوسية اسمهان:

يا ديرتي لا تعتبي ما لك علينا لوم

لومك على اللي خان

وتلك حقب لا تعرف فيها الوطني من الخائن من الحزبي الملتزم الذي يمتلك خطة سياسة يسخر لها الفن والفنانين ومعظم القرائن والاشارات للمرحلة الاولى من الانقلابات العسكرية في سورية التي سبقت اغتيال عدنان المالكي تشير الى نفوذ اعلامي وثقافي خطير للحزب القومي السوري الاجتماعي ولا نعرف على وجه التحديد ما اذا كان الشيخ حافظ تقي الدين سكرتير برامج الاذاعة اللبنانية آنذاك والذي قدم فيروز الى حليم الرومي كقريبه سعيد تقي الدين من الحزبيين الملتزمين، والمقربين الى قيادة الحزب القومي السوري الاجتماعي كما انه ليس من الضروري ان يكون بولس الاشقر المؤثر الاول على منصور وعاصي كمعظم آل الاشقر في المتن من مناسيب الحزب المشار اليه. ومع ذلك، فإن غياب هذه المعلومات او حتى نفيها لا يلغي حقيقة التأثير المهيمن فنيا وثقافيا لذلك الحزب الذي تلقى الضربة القاصمة بعد اغتيال المالكي مما جعل الكثير من منتسبيه ومؤيديه يسارعون الى اخفاء بطاقاتهم الحزبية وتلك هي المرحلة التي جعلت فئة اخرى تخفي بعض اغانيها واشعارها التي انتقلت من حالة النغمة الى التهمة، فالنقمة واحيانا كانت الاذاعة نفسها تتلف بعض الاغاني المسيسة، فكلما جاءت امة لعنت اختها، واعدمت رجالها واغانيها، فهل تقع اغاني الرحابنة المخفية بقدرة قادر تحت هذا الاطار..؟ وهل كانت فيروز قبل عاصي تحت تأثير شعراء وملحني حزب سياسي بعينه..؟ ومن السهل ان تجيب بنعم، لكن دعنا قبل اصدار الحكم نقرأ غدا الخفايا والحيثيات.