نجوم 11 سبتمبر

TT

وقفت في مناسبة سابقة في هذه الصفحة عند المحاولات الجارية لغرض «إصلاحات» عقدية وفكرية على العالم الإسلامي، من لدن بعض دوائر الفكر والقرار الغربية (الأميركية على الأخص)، وميزناها عن جهود الإصلاحية العربية الإسلامية التي ما زالت مشروعا مفتوحا ومتواصلا منذ عهد الأفغاني ومحمد عبده.

وقد آثرنا اليوم العودة للموضوع، لتناول الجانب المتصل بما يمكن تسميته «نجوم 11 سبتمبر»، ويتعلق الأمر ببعض المعلقين والمختصين في الفضاء العربي الإسلامي الذين حملتهم الأحداث إلى الأضواء الإعلامية، بعد أن كانوا في الغالب من المغمورين وغير المعروفين في الأوساط الأكاديمية والفكرية الرصينة، أو بعض الوجوه الأخرى المعروفة ممن حملتهم هستريا العداء للعرب والإسلام في الغرب إلى الجهر بمواقف كانوا يلمحون إليها باستحياء أو يخفونها، ويذهل المراقب المطلع لعدد الكتب والمؤلفات التي صدرت بكثافة خلال العام الحالي باللغات الأجنبية حول الإسلام والغرب من المنظور الاستراتيجي والثقافي من وحي زلزال 11 سبتمبر.

وإذا تركنا جانبا بعض الكتابات الاستفزازية الفجة التي راجت على نطاق واسع وكثر الحديث حولها، مثل كتابات «أوريانا فالاشي» وميشال هوليك»، أمكننا تصنيف المؤلفات المذكورة في ثلاثة اتجاهات:

ـ الاتجاه الاستشراقي التقليدي: الذي يبدو أنه عرف انتعاشة جديدة، لسد ثغرة الطلب الواسع حول الإسلام والثقافة الإسلامية التي لا يمكن أن تسدها دراسات الجيل الجديد من المستعربين الذين يركزون أبحاثهم على الموضوعات الاجتماعية أو الجيوسياسية باستخدام مناهج العلوم الإنسانية المعاصرة.

فالمستشرق العجوز برنارد لويس عاد بقوة إلى الأضواء، وتحول إلى نجم إعلامي كثيف الحضور بعد الأحداث، فأصدر كتابا بعنوان «ما الذي حصل؟» يزعم فيه تقديم الإجابة على أشكال «أزمة الانفصام بين الإسلام والحضارة الحديثة» التي هي ـ حسب اعتقاده ـ خلفية «الإرهاب الأصولي»، مرجعا هذه الأزمة إلى عدم نفاذ المشروع النهضوي العربي ـ الإسلامي إلى مشكل العلاقة القائمة بين الدين والدولة، أي بعبارة أخرى عدم استيعاب وتبني الرؤية العلمانية للشأن السياسي.

ولا نحتاج إلى التنبيه إلى هشاشة هذا التصور الذي ينطلق من قراءة ساذجة للنص الإسلامي ولتجربة الدولة الإسلامية في التاريخ، التي لم تكن دولة دينية، بل هي كما بين ابن خلدون دولة الأمة القائمة على الوشائج العصبية التي تقتضي العقيدة مقوما للشرعية والالتحام.

وبالإضافة إلى المسألة السياسية، كثر الحديث في الأدبيات الاستشراقية الجديدة حول موضوع الجهاد ورؤية الإسلام للآخر بنعتها بالإقصائية والعدوانية، وخلال التأويل المتسرع والزائف للنصوص الإسلامية وإخراجها من سياقاتها، مما ينم عن قصور فادح في التعامل مع هذه النصوص، مما لا يحتاج لمزيد بيان.

ـ الاتجاه «النقدي» الذي يقنع المواقف ذاتها بمفاهيم واصطلاحات العلوم الإنسانية ومناهج التأويل المعاصرة، لتمرير مواقف أيديولوجية لا تصمد أمام القراءة الرصينة الجادة. وأغلب هؤلاء ينتمون إلى الدائرة الثقافية العربية الإسلامية، وإن كانوا نادرا ما يكتبون أعمالهم الأصلية باللغة العربية.

وبطبيعة الأمر يختلف هذا الاتجاه عن الفكر النقدي الموضوعي الذي برز في السنوات الأخيرة، وترك أثرا محمودا في الساحة الثقافية.

الامر يتعلق بنجوم من نمط آخر تعددت اطلالاتهم في الاعلام الغربي، وقدموا بصفتهم وجوه الاصلاح المطلوب التي يتمحور حول فكرتين اساسيتين هما: اخضاع الاسلام ونصوصه لتجربة الديانات السماوية الاخرى لتأهيله للحداثة والتطور والتبشير بالحضارة الكونية الجديدة الواحدة في مقابل مقولة التنوع الثقافي والتمايز القيمي. ولعل أوضح مثال على هذا الاتجاه الكتاب الاخير الذي اصدره محمد اركون وجوزيف مايلا بعنوان «ما الذي حدث يوم 11 سبتمبر»؟

وليس من همنا بسط القول في الاشكالات النظرية والايديولوجية التي تفضي اليها هذه المقاربة التي تتغطى بالسمة العلمية العميقة، وان كانت ترتد عند الفحص والتحليل الى مجرد مواقف ومسبقات ايديولوجية مبتذلة.

ـ الاتجاه «الاستشرافي المستقبلي» الذي يرصد المتغيرات الاستراتيجية وحركية الاحداث، ويضع السيناريوهات والمشاهد القادمة، في مرحلة تزايدت بصفة مثيرة مؤشرات التحول الجذري في الدائرة العربية الاسلامية، وامتزجت المعلومة بالاشاعة، والمخططات الفعلية بالخطط الوهمية التي تلوكها وسائل الاعلام السيارة وتقدمها حقائق جاهزة.

وهكذا ابرز جيل جديد من المحللين السياسيين والباحثين في الشؤون الاستراتيجية والعلاقات العربية ـ الدولية، انتقلوا من مجال اهتمامهم وتكوينهم التقليدي الى الشأن الثقافي الذي اصبح حسب النظرة السائدة مفتاح الفكر الاستراتيجي، خصوصا منذ انبثاق براديغم «صراع الحضارات» بعد مقالة هانتنغتون المشهورة.

وقد استأثرت المملكة العربية السعودية بالجانب الاوفر من نغمة هذا النمط الجديد من المحللين والباحثين في الشأن الاستراتيجي الذين حملتهم موجة العداء السائدة في بعض الادبيات الغربية للنموذج السعودي بمرجعيته الاسلامية.

ومن ابرز ممثلي هذا الجيل الباحث الفرنسي ـ اللبناني «انطوان بسبوس» الذي كتب مؤخرا كتابا بعنوان «المملكة العربية السعودية موضع سؤال»، يذهب فيه الى ارجاع كل ظواهر التطرف والارهاب والعنف المسجلة في القضاء الاسلامي الى ما يعتبره ايديولوجيا اصولية مغلقة تصدر بقوة واغراء الثروة النفطية السعودية.

وقد احتفت الدوائر الاعلامية والفكرية الغربية بهذا الكتاب الذي يكرر مستنسخات تتردد على نطاق واسع اليوم في الصحافة الغربية وخصوصا الاميركية.

وليس من همنا الكشف المفصل عن المغالطات الواضحة التي تقدمها هذه المقاربة المشبوهة، وحسبنا الاشارة الى انها عاجزة عن ادراك نمط تمفصل المرجعية الاسلامية بآليات انشاء الدولة في هياكلها الحديثة داخل مجتمع حدد موقعه الجغرافي ومكانته الدينية وتركيبته المجتمعية خياراته الذاتية التي لا يمكن ان تقرأ بالمعايير الساذجة المبسطة، ولا يمكن اغفال ديناميكيته الاصلاحية ذات الايقاع المتميز (وقد قرأنا على صفحات «الشرق الأوسط» جانبا هاما من الحوار الدائر داخل النخبة السعودية حول هذه الديناميكية).

ان ما نريد ان نخلص اليه هو ان زلزال 11 سبتمبر 2001 وان كان خلف حيوية سجالية عالية في المستوى الفكري، باعتبار الاشكالات النظرية والجيوسياسية الهائلة التي طرحها، الا انه فسح المجال امام نجوم اعلامية جديدة واسعة الانتشار تلتقي في خاصية جامعة هي الافتقار الى الارضية العلمية المطلوبة في تحليل حدث يميل اغلب المحللين والمعلقين الى استنطاقه بالمعيار الثقافي.