خريطة الشرق الأوسط لن تتغير بعد الحرب

TT

الحديث عن «تغيير خريطة» منطقة الشرق الأوسط (أو الشرق الأدنى)، عمره نصف قرن، على الأقل. بدأ بعد قيام دولة إسرائيل ومرّ بمشاريع «سوريا الكبرى» و«الهلال الخصيب»، ومشاريع الوحدة أو الاتحاد بين العراق وسوريا وبين مصر وسوريا والعراق وبين العراق والأردن وبين مصر واليمن وليبيا وبين العراق والأردن، ولكن من كل هذه الأحاديث والمشاريع لم يتحقق (وبالتالي لم يتغير شيء في خريطة الشرق الأوسط)، سوى اندماج سوريا بمصر عام 1958، وسوى انفصال ثم توحيد اليمن الشمالي باليمن الجنوبي، اللذين لم يعمّرا سوى سنوات قليلة. وعادت خريطة «المنطقة» وحدود دولها إلى ما رسمت أو ارتسمت بعد سقوط السلطنة العثمانية وتوقيع معاهدة سايكس ـ بيكو في مطلع القرن العشرين، مع استثناء واحد وهو قيام دولة إسرائيل على القسم الأكبر من «دولة فلسطين».

لماذا بقيت الخريطة كما هي؟ ولماذا فشلت كل المحاولات والمشاريع الدولية والإقليمية الداعية أو العاملة على تغيير هذه الخريطة؟ هل لأن شعوب هذه المنطقة رفضت هذه المشاريع الهادفة إلى تغيير الحدود أو توحيد بعض الدول ـ أو كلها؟، وما هي أسباب هذا الرفض؟ هل يعود إلى تمسك هذه الشعوب، رغم نداءات القومية والوحدة العربية، لا سيما بعد قيام إسرائيل، بـ «وطنيتها القُطرية»؟ أم يعود إلى رفض الشعوب والحكومات العربية لبعض هذه المشاريع الاتحادية، لصلتها بمشاريع استراتيجية دفاعية دولية تشتم منها رائحة الاستعمار السابق؟ (الهلال الخصيب، حلف بغداد)، أم لأن الدول الكبيرة، وتخصيصاً، الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، كانت معارضة لأي تغيير في خريطة الشرق الأوسط، (لأسباب متباينة)؟ أم لأن إسرائيل كانت تعارض كل اتحاد أو وحدة بين الدول العربية المحيطة بها وتعمل على احباطها من وراء الستار أو من أمامه؟، أم لأن «الجميع» كانوا يخشون من أن يؤدي أي تغيير في خريطة المنطقة، حتى ولو كان صغيراً، إلى فتح الباب على تغييرات أخرى وأكبر، من شأنها التأثير على مصلحة الأنظمة الحاكمة، وعلى مصالح واستراتيجيات الدول الكبيرة؟

حتى اليوم، وعشية الهجوم الأميركي المحتمل والمعلن سلفا على العراق، وبعد الإعلان الأميركي عن «الخريطة الجديدة» لفلسطين، فإن ثمة اجماعاً دولياً وإقليمياً وعربياً، على أن لا تتغير لحدود الدولة العراقية ولا غيرها من حدود الدول المجاورة. في الواقع ليس من مصلحة الدول الكبرى ودول المنطقة العربية منها وغير العربية، أياً كانت مرتكزاتها العقائدية أو الدستورية، حدوث تغيير في خريطة المنطقة. فتركيا تخشى من أن يؤدي أي تغيير كياني في العراق إلى قيام دولة كردية تبدأ على الأرض العربية العراقية ثم تمتد إلى المناطق الكردية التركية. وإيران وسوريا تشاركان تركيا هذه المخاوف، والمملكة العربية السعودية وكل دول الخليج ترفض تغييراً جغرافياً في جنوب العراق. وإسرائيل التي ترحب، كما هو معروف بـ «عودة» الضفة إلى المملكة الأردنية، تخشى من تغييرات في الحدود قد تؤدي إلى قيام دولة فلسطينية ـ أردنية إلى جوارها، أشد «تهديداً» لها من دولة فلسطينية صغيرة في الضفة وغزة.

من هنا يرجح الاعتقاد بأن «خريطة المنطقة» ليست مرشحة للتغيير، سواء نشبت حرب أميركية ـ عراقية أم لم تنشب، سواء بقي صدام حسين حاكماً في العراق أم قام فيه نظام فدرالي أو تعددي ديموقراطي، سواء نجح المشروع الأميركي للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين أم لم ينجح. وما الحديث المتردد، من حين لآخر، عن «تغيير خريطة» الشرق الأوسط، إلا جزء من الحملات الإعلامية النفسانية الهادفة إلى تخويف هذا الفريق أو الضغط على ذلك الفريق، في سياق معركتين كبيرتين: الحرب الأميركية على الإرهاب والصراع العربي ـ الإسرائيلي.

ولكن إذا كانت حدود دول المنطقة وكياناتها الوطنية غير مرشحة للتغيير، فهل كل اوضاع المنطقة مرشحة ايضا للبقاء على ما هي عليه؟ وهل سيكون النظام العراقي هو الوحيد المرشح للتغيير؟ وهل إذا تحقق السلام العربي ـ الإسرائيلي، بطريقة أو بأخرى، على يد واشنطن أو الأمم المتحدة أو بالمفاوضات المباشرة، سوف تبقى أنظمة وأوضاع وعلاقات دول المنطقة ببعضها البعض، وبالعالم، على ما هي عليه، اليوم؟ أو ما كانت عليه قبل 11 سبتمبر (أو بعد الحرب الأميركية ـ العراقية)؟.

ان العالم، وخاصة منطقة الشرق الأوسط، دخل بعد 11 سبتمبر، مرحلة جديدة. كذلك أصبح للولايات المتحدة استراتيجية جديدة في الشرق الأوسط، لا تقتصر ابعادها أو أهدافها على ما كانت عليه قبل 11 سبتمبر، أي حماية منابع النفط ودعم إسرائيل، بل أصبحت الحرب على «الإرهاب الإسلامي» تشكل محورها الرئيسي. والإطاحة بنظام صدام حسين في العراق ليست سوى الخطوة الثانية بعد خطوة افغانستان، ولكنها ليست الأخيرة. وبالرغم من كل التأكيدات والتوضيحات و«التليينات»، والنيات الحسنة، السياسية وغير السياسية التي أعلنتها واشنطن بالنسبة لسياستها العربية والشرق أوسطية الجديدة، فإن تطلعها إلى حدوث أو إحداث تغييرات هامة وجذرية في أنظمة الدول العربية والإسلامية، وفي أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية، باتجاه المزيد من الديموقراطية والتقدم والتحديث، إنما هو تطلع جدي، بل جزء هام في استراتيجيتها الدفاعية والأمنية. ولن تخفض الولايات المتحدة أسلحتها الحربية والأمنية والسياسية والإعلامية بوجه «الخطر الأصولي الإرهابي الإسلامي» (الذي حل في نظرها محل الخطر الشيوعي ـ السوفياتي)، إلا إذا قطعت جذوره، بالتعاون مع الدول العربية والإسلامية وأنظمتها الجديدة أو المتجددة، أو من وراء ظهرها أو غصباً عنها. ان الشعوب العربية والإسلامية، والقوى السياسية الدينية والقومية والديموقراطية، والأنظمة الحاكمة ايضا، تعترض أو ترفض هذا المخطط الأميركي لضرب الإرهاب الذي يفرض عليها تغييرات جذرية في حياتها وأولوياتها الوطنية والعقائدية والثقافية. حتى ولو كانت تلتقي، في جانب ما أو هدف ما، مع بعض الأهداف أو التصورات الأميركية.