ثلوج فوق قمة بركان

TT

على بعد ست ساعات الى الجنوب من مدينة ميران الاندونيسية يقع بركان خامد تكونت على فوهته بحيرة «توبا» التي هي مصب لشلالات مياه عذبة باردة متساقطة من اعالي الجبال المحيطة. ورغم زياراتي المتكررة لتلك البحيرة الساحرة الا انني لم استطع قط السباحة فيها كون درجة حرارة مياهها تقارب الصفر..

هذا التناقض الكبير بين المياه المتجمدة فوق قمم البركان وحمم الحديد المذابة تحته تشبه ما لحظته عند لقائي مع اخوة من المعارضة العراقية على هامش مؤتمرهم الذي عقد في لندن الاسبوع الماضي، فرغم الهدوء القائم على السطح الا ان هناك خلافات شديدة بدأت تظهر بين الفرقاء من اقطاب المعارضة بامكانها ان تحيل في نهاية المطاف المياه العذبة الصافية المتواصلة بينهم والمتمثلة بعبارات التسامح والمغفرة وطي صفحة الماضي الى ابخرة ماء متصاعدة شديدة الحرارة والسخونة تحجب الرؤية وتغيب الحكمة والعقل، ومما خرجنا به من تلك اللقاءات ملاحظات عدة منها:

1ـ ان المؤتمر كان فيه جمع يدعو للصداقة مع امريكا وجمع يدعو للتقارب مع ايران وجمع مستقل وجمع اخير يمثل صدام رغم تدثره برداء المعارضة، كان الهدف من حضوره ومشاركته في الاجتماعات وعلى اوراق الصحف والفضائيات تفجير المؤتمر من الداخل عبر طرح القضايا الخلافية، اضافة الى غرس بذور الشقاق المستقبلي بنشر طروحات وأقاويل تهدم ولا تبنى، تدمر ولا تعمر..

2ـ يدعي البعض من الجمع الاخير بأن المؤتمر لا يمثل الشعب العراقي، ويتساءلون بمكر وخبث عمن انتخب قيادات المعارضة العراقية؟! والحقيقة التي يعلمونها جيدا انه لا توجد معارضة وطنية حقيقية مهجرة او مقموعة تم انتخابها قط، فمن انتخب غاندي او مانديلا او هوشي منه او حركة التحرير الجزائرية وغيرهم؟!.. دعوى كهذه يراد منها اعطاء الشرعية للرئيس العراقي وحده صاحب استفتاء 100 % وسحبها بالتبعية من الآخرين!

3ـ رمي المعارضة بتهم القبض من الولايات المتحدة، والحقيقة ان الاموال الامريكية المعلنة والمستقطعة من دافع الضرائب الامريكي الراضي والعالم بها، خير الف مرة من الدولارات المغموسة بدم وعرق الشعب العراقي التي يتسلمها البعض خفية من سفارات النظام الحاكم في بغداد.

4ـ لا يكتفي هؤلاء المتخفون بتخريب حاضر العراق بل يحاولون تدمير مستقبله كذلك عن طريق أقاويل مغرضة كطلب اعادة النظر بالقرارات الدولية المتفق عليها وفتح ملف الحدود مع الكويت والادعاء بالحاجة الى موانئ اضافية على الخليج ـ ولربما مستقبلا على المحيط الهندي ـ ومعروف ان تلك القضايا قررت وحسمت من قبل خبراء ومختصين من جهات محايدة دولية، ولا يتكلم هؤلاء عن التفريط بنصف شط العرب او بعض الحدود التي تم رسمها بقرار فردي من قبل الرئيس في لحظة ضعف او.. سرور!

5ـ كما يثير هؤلاء الفتن الطائفية بألف شكل وشكل، فتارة يتهمون المؤتمر الاخير بانه تجمع اكراد وشيعة، وتارة اخرى يتساءلون عن نسب تمثيل الطوائف في لجان المتابعة، وثالثة يدعون فيها بأن حكم طائفة ما للعراق لن يرضي الجيران، بينما يظهر واقع الحال ان الجيران يرتضون للعراق ما يرتضيه شعبه لنفسه طالما ازمع النظام القادم وقف التأزم في الداخل عبر التعامل المنصف والعادل مع كل الطوائف والتوجهات السياسية الاخرى، وأوقف بالمثل المشاكل مع الخارج عبر القبول بالاتفاقيات المعلنة والتوقف عن خلق الشقاق مع الاشقاء والعداء للدول الاخرى والكبرى.

6ـ ويشكك هؤلاء عبر طرح غريب بفائدة بقاء الجيش العراقي ومن ثم ضرورة التخلص منه في وضع اقرب للمحاكم الخلخالية الشهيرة التي اضعفت الجيش الايراني ومهدت بالتبعية لاضعاف البلاد وغزوها، ويقترحون كبديل ان يضبط الامن عبر الميليشيات وقوات الاهالي مما يعيد الى الاذهان مذابح الموصل وكركوك 59 وبغداد 63 عندما سيطرت على الامور آنذاك قوى السلام الاهلية الشيوعية والحرس القومي الشعبي البعثي.

7ـ ويتحجج المشكلون بمقاطعة الحزب الشيوعي والدعوة وبعض الفصائل كذريعة لفشل المؤتمر، والحقيقة انه لا توجد معارضة في العالم اجمع تدعي انها تمثل الشعب باكمله، بل ليس مطلوبا منها ذلك، ومع ذلك نود لفت الانتباه الى ان تجارب التاريخ الحديث تظهر بصورة جلية ان تقليل عدد الفصائل ـ لا زيادتها ـ هو ما يزيد من فرص النجاح بينما لا تسبب كثرة ووفرة الفصائل وتشتتها الا الاخفاق رغم عدالة القضية. ومن هنا الفارق بين انتصار الافارقة والآسيويين وفشل الاخوة الفلسطينيين.

8ـ ويثير المشككون دعوى بان قوى التحالف الدولية ستهدم العراق كما ان الوجود الاجنبي سيؤثر في قراره الوطني والتحكم باسعار نفطه، والحقيقة ان مثل ذلك التشكيك تم عام 91، وقيل آنذاك إن القوات الامريكية ستهدم الكويت وتساويها بالأرض حتى يمكن للشركات الغربية ان تستفيد من اعادة اعمارها. واشيع بان الامريكان اتوا لخفض اسعار النفط وفرض الصلح مع اسرائيل، وقد اثبت الواقع المعيشي عكس ذلك تماما، فالحلفاء لم يهدموا حائطا واحدا في الكويت بل اتى التدمير كله من قبل القوات الصدامية وقد ارتفعت اسعار النفط مع الوجود الامريكي في الخليج، من ما يقل عن 15 دولارا عام 90 الى ما يزيد عن 30 دولارا. هذه الايام وما زالت الكويت من الدول القلائل التي لا تمثيل او علاقة لها مع اسرائيل.. ان قوات التحالف لن تهدم العراق او تؤثر في قراره السياسي واسعار نفطه، بل سيأتي التدمير كما خبر ذلك الايرانيون والاكراد والكويتيون من قبل قوات الرئيس صدام.. بحرب او بدونها.. اما قضية السيادة العراقية المفقودة هذه الايام فنستذكر رئيس وزراء العراق السابق عبد المحسن السعدون الذي حاول الانجليز فرض المعاهدة عليه فأطلق الرصاص على نفسه.. كم تغير انواع الساسة في بلاد الرافدين منذ ذلك الحين.

9ـ وقد نجح النظام العراقي في ارعاب قوى المعارضة فاصبح خطابها الاعلامي لا يختلف كثيرا عن خطابه الرافض للحرب والتحرير والتفتيش ونزع اسلحة الدمار الشامل، في وقت كان يجب ان يتطابق فيه خطاب المعارضة مع رغبات الشعب في الداخل، الذي يصرخ طالبا الحرب حتى يفك قيده ويتخلص من حياة الرعب والعبودية في وضع شبيه بما حدث للكويتيين عام 91.. ان الشعب العراقي يرغب بالتغيير أياً كان الثمن، فقليل يدفع الآن مع جائزة خير من كثير يدفع في الغد من دون فائدة.

10ـ ويطلق المغرضون مقترح الفيدرالية بنهج غامض متناسين انها يجب ان تكون آخر الحلول لا اولها فذلك المقترح السياسي الامريكي الذي انشأه الصحافيون الشبان هاملتون وماديسون وجي قبل ثلاثة قرون لم يقصد به من قريب او بعيد بلدا كحال العراق. والخوف من الفيدرالية ان قيامها على خطوط الطائفة والعنصر سيمهد لانشطار وانقسام العراق مع اول اشكال امني او سياسي، ولن يحل ذلك الاشكال ادخال العرب في دولة الشمال والتبادل السني والشيعي في دولتي الوسط والجنوب، بل قد يزيد تعقيدها وتكون تلك الجيوب، وأي معاملة غير عادلة لها سبب الاقتتال بين الدويلات وانفصالها.

11ـ وقد يكون الحل الامثل لعراق المستقبل حكما ملكيا للاشراف مع رئاسة شيعية للوزارة ونائب سني لها ورئيس برلمان كردي او ان يتم تقسيم تلك المحاصصة عبر مدد زمنية كأن يتولى الوزارة لثلاث مدد زمنية شيعي ولمدتين سني ولمدة كردي وتتم المحاسبة البرلمانية لمن يخل بالعدل والانصاف في توزيع الوظائف على المواطنين.

12ـ تبقى ملاحظتان اخيرتان، الاولى ان الوئام القائم بين الطوائف قد يفجره النظام العراقي فور بدء الحرب عليه عبر قيامه بمذابح جماعية في الشمال والجنوب تثير الاحقاد وتعيد المواجع والذكريات المؤلمة السابقة ومن ثم تبدأ انهار الدم في الجريان في بلد يرى استاذ علومه الاجتماعية الاول د. علي الوردي ان ارضه ونهره وهواءه تتسبب بالشقاق والاقتتال بين اهله وساكنيه، والثانية انه رغم الرعد والبرق الامريكي المغطي لسماء العراق منذ بدء العام الحالي، الا ان هناك احتمالا تحدث عنه فريدمان وكودزمان يشير لاحتمال تأجيل هطول امطار الحرب الامريكية على العراق لمدة عامين بسبب ضعف التأييد الاقليمي والدولي للحرب وهو امر ليس بمستغرب فشمال الخليج وسهول العراق كثيرا ما تمتلئ سماؤها بغيوم وعواصف لا تمطر الا بعد.. سنوات عديدة!!