المشروع السياسي الفلسطيني على حافة الانتحار

TT

الحوار الفلسطيني حول القضايا المركزية يبدو غائبا في معظم الاحيان، وغياب الحوار لا يعني غياب النخبة الفلسطينية التي يقع على عاتقها وضع الاسئلة الصعبة والاجابة عليها حتى يتسنى للشارع الفلسطيني معرفة الوضع السياسي الذي يمر به، لكن غياب الحوار المنظم وتعدد الاصوات والتصريحات وغياب المركزية والمسؤولية، جعل الشارع الفلسطيني يتخبط عاجزا عن معرفة حقيقة الموقف من التطورات المتسارعة.

هناك صخب وفوضى اعلامية، وحوار مبتور وتبادل للاتهامات، وهناك تيار يقود حملة شرسة تحت شعار «لا صوت يعلو على صوت المعركة»، وهذه الحالة الفلسطينية تعكس الوضع المتردي لمؤسسات السلطة ومنها بدون شك الاعلام، وهذا الوضع مخيف ومقلق.

نحن الآن في العام الثالث للانتفاضة ولا أحد يجرؤ على طرح الاسئلة الصعبة، اين نحن؟ ماذا حققنا؟ وهل ابتعدنا او اقتربنا من اهدافنا؟ وما هي اهدافنا بوضوح؟

قبل الاجابة على هذه الاسئلة يحتاج الامر الى معرفة الارضية التي نقف عليها حاليا.

فمنذ توقيع اتفاق اوسلو في يوليو 1993 اقامت منظمة التحرير سلطة وطنية عن معظم اراضي الضفة الغربية وقطاع غزة بعد انسحاب الجيش الاسرائيلي منها وتم بناء مؤسسات السلطة بعد عودة عشرات الآلاف من الكوادر الفلسطينية، وتم ذلك كله في اطار اتفاقيات ارتضت بها مؤسسات الشعب الفلسطيني وصادقت عليها. واوسلو للتذكير اتفاق مرحلي انجز في ظل ظروف عربية ودولية، ينص على ان الحل النهائي يتم بالتفاوض لايجاد حل لمشاكل عالقة اهمها القدس، اللاجئون، المستوطنات، الحدود، المياه وغيرها. ومنذ قيام السلطة وطوال سبع سنوات عجاف تمت فيها مفاوضات متعددة لم تسفر عن نتيجة ملموسة، نظرا لتمسك المفاوض الفلسطيني بالثوابت التي حددتها المؤسسات الفلسطينية، وهي حل عادل ومقبول للاجئين وفق قرارات مجلس الأمن وحدود معترف بها وزوال المستوطنات والقدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية. وقد قاد مأزق المفاوضات الى الانتفاضة الحالية التي سرعان ما شهدت تطورات كبيرة عقدت الوضع على الارض، واعادت الامور الى ما قبل اوسلو، عودة لاحتلال في ظل وجود السلطة دون ان يستطيع انهاءها او التخلص منها كما يتمنى. صحيح ان المقاومة وصمود الشعب الفلسطيني لعبا دورا في ذلك، إلا ان العامل الدولي لعب بدوره دورا حاسما في لجم شارون والحد من شهوته للقتل ورغبته في انهاء السلطة ورموزها ومؤسساتها.

في هذه الاجواء جاء لقاء امين سر اللجنة التنفيذية محمود عباس (ابو مازن) مع لجنة اللاجئين في منتصف الشهر الماضي في قطاع غزة، طرح خلاله بصراحته وجرأته المعروفة مجموعة من الافكار، حركت المياه الراكدة واعادت الحوار حول ما يجري الى الواجهة.

دعونا نتفق اولا على اطار المشروع السياسي الفلسطيني الذي نناضل من اجله واعتقد ان هناك شبه اجماع على ضرورة زوال الاحتلال واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، ولتحقيق هذا المشروع هناك رؤيتان، الاولى، تتمثل في المفاوضات المتوقفة حاليا، والثانية، المقاومة وهي حق مشروع طالما الاحتلال قائم، والانتفاضة شكل من اشكال هذه المقاومة.

اعتقد ان المفاوض الفلسطيني سجل انجازا طوال السبع سنوات من التفاوض المرير، وهذا الانجاز يتمثل في ان الافق السياسي للتسوية واضح وغير قابل لا للتنازل ولا للمساومة، ولذلك كانت الانتفاضة وكان الحصار الاميركي، بل شبه القطيعة مع السلطة. والذين كانوا ينتظرون ان تكون المفاوضات سهلة يراهنون على سراب، فمفاوضات الحل النهائي لم يكن منتظرا ان تكون سهلة نظرا لطبيعة الملفات العالقة والتي تشكل اساسا لمستقبل الدولة القادمة.

وبحكم ان ابو مازن مسؤول مسؤولية مباشرة عن ملف المفاوضين، فإن الرجل لا سرا ولا في العلن تزعزع قيد انملة عن مواقفه التي هي مواقف الشعب الفلسطيني، والتي حددت بوضوح ملامح الحل النهائي للصراع.

اما فيما يتعلق بالانتفاضة فإن الواجب يحتم علينا تقييما موضوعيا وهادئا وبعيدا عن اي تشنج، وان نطرح سؤالا مباشرا: هل قربتنا من اهدافنا السياسية ام ابعدتنا عن هذا الهدف؟ وقبل الاجابة على هذا السؤال لا بد ان نذكر بأن للانتفاضة اشكالا متعددة منها ما اصطلح عليه عسكرة الانتفاضة، وفي هذا التعبير الكثير من المبالغة للعمليات التي تتم ضد الاحتلال، فعسكرة تعني جيشا مقابل جيش، والامر في حالتنا عبارة عن عمليات فردية فدائية بطولية موجهة احيانا ضد اهداف مدنية انتقاما للمذابح والمجازر التي ارتكبها الاحتلال ضد شعبنا وسلطته.

اذن هناك نوعان من الانتفاضة، المقاومة المدنية كالحجر والتظاهر وغيرهما من مظاهر المقاومة المدنية والعمليات الاستشهادية التي تستهدف مؤسسات ومجتمع العدو، ولنعد الى السؤال: هل تقربنا هذه العمليات من هدفنا السياسي اي زوال الاحتلال؟ علينا ان نقر بأن الانتفاضة وسيلة لتحقيق هذا الهدف، لكنها ليست الوسيلة الوحيدة، لانه في نهاية المطاف، لا بد من التفاوض على مشكل الحل النهائي.

وعلينا ان نعترف ان هناك تخبطا واضحا في قيادة هذه الانتفاضة وفي التخطيط لها وفي الاعلام وفي البرنامج العملي اليومي وفي البرنامج السياسي، وهذا التخبط جعل العديد من العمليات ينفذ في توقيت سيئ يبعدنا عن اهدافنا بدلا من ان يقربنا منها.

هناك فوضى نلمسها عبر الفضائيات العربية المتنافسة حيث تعددت التصريحات والمصرحون. وهناك الكثير من القيادات التي ظهرت والتي لا يعرف أحد من اين اتت وهناك حالة من الفوضى وتعدد المواقف اوقعت الشارع الفلسطيني في حيرة وارباك، فداخل التنظيم الواحد هناك المؤيد والمعارض. واصبح السباق نحو هذه العمليات نوعا من التنافس التنظيمي خارج اطار اي برنامج او اي هدف.

بالنسبة للمعارضة الاسلامية، هناك رفض للعملية السلمية برمتها وفقا لاتفاقيات اوسلو، لذلك فإن مثل هذه العمليات يخدم اهداف هذه المنظمات ومن دون مراعاة للمصلحة الوطنية، ووضع السلطة الضعيف، اما فيما يخص العمليات التي تقوم بها المنظمات المنضوية تحت لواء منظمة التحرير وخاصة فتح، فإنها تثير اسئلة مشروعة فالسلطة تندد بهذه العمليات وتدفع ثمنا باهظا، فهل تخدم هذه العمليات البرنامج السياسي الفلسطيني؟ وجهة نظر ابو مازن تقول ان مسؤولية كبيرة تقع على عاتق حركة فتح في قيادتها للشعب الفلسطيني. وان عليها الا تنساق وراء التنظيمات الاخرى، وعليها ان تدافع عن برنامجها السياسي ومشروعها الذي هو المشروع الوطني الذي ارتضت به مؤسسات الشعب الفلسطيني. وهنا يبدو الخلل اكثر وضوحا، ويمكن تحديده في غياب برنامج واضح لاهداف الانتفاضة والعمليات الاستشهادية، وبعبارة اخرى هناك غياب لدور القيادة حيث لا تخضع العمليات لقواعد العمل التنظيمي السياسي، كما ان بعضها يبدو وكأنه يصب في برنامج العدو، الذي يستثمره في سياسته لضرب وتقويض مؤسسات السلطة وضرب مؤسسات المجتمع الفلسطيني التي بنيت في السنوات الماضية وتشكل نواة الدولة المنتظرة.

ثم هناك الفساد السياسي والمالي، واحتكار القرار السياسي وما رافقها من مظاهر وسلوكيات دعت المجتمع الدولي للمطالبة بوضع حد لما اصطلح عليه ظاهرة الفساد. وهي ظاهرة منتشرة في الاجهزة الامنية المتصارعة والطامحة في دور سياسي، وفي الفساد المالي وظاهرة خالد سلام، التي تبدو مهينة للجميع سلطة ومعارضة، خاصة ان رجلا واحدا يتحكم في المال العام دون حسيب او رقيب، ويتواجد من خلال ذلك في جميع المحطات بما فيها الحوار مع حركة حماس الذي تم في القاهرة برعاية الحكومة المصرية.

من يعتقد ان الانتفاضة، سواء كانت مدنية او مسلحة تنجز حلا فهو واهم، فهي وسيلة ليس الا، ومفهوم حركات التحرر بمنطق منتصف القرن الماضي انتهت لان لكل مرحلة ظروفها ومعطياتها. ومرحلة تصفية الاستعمار وحركات التحرر انتهت بلا رجعة، فهناك وضع دولي جديد يفرض نفسه وليس من المفيد اغماض العين عنه، وهذا الواقع الدولي لا يعني الاستسلام، لكنه ايضا لا يعني التهور والانتحار السياسي فموازين القوى الدولية لا يمكن القفز عنها، والدعوة الى مواجهة عسكرية باعتبارها الحل الامثل هي انتحار سياسي وتقدم مبررا للعدو لارتكاب الكثير من المجازر في حق شعبنا.

وبعد احداث 11 سبتمبر نشأت مرحلة فاصلة في التاريخ الحديث، اعطت لمكافحة العنف والارهاب عنوانا جديدا ومجالا واسعا للحركة، واصابت نضالنا في الصميم. وقد استثمرها العدو بالتحالف مع الولايات المتحدة بقوة. لذلك فإن اي مغامرة مهما كان حجم الخسائر التي تلحقها بالعدو تلحق على المستوى القريب والبعيد بنضالنا وقضيتنا ضررا سياسيا وتبعدنا عن مشروعنا الوطني الذي هو محط آمالنا في نهاية الأمر.

لقد ادركت سوريا، مثلا، مبكرا اهمية موازين القوى، والخلل الواضح لصالح العدو الاسرائيلي، وجنبت شعبها والمنطقة، اكثر من مرة، كارثة حقيقية دون ان تضطر لتقديم اي تنازل عن اهدافها السياسية ومطالبها المشروعة في استعادة الجولان كاملا، وكذلك الامر بالنسبة لنضال حزب الله في لبنان، الذي احسن تقييم الموقف واتخاذ القرار المناسب بعيدا عن المصلحة الذاتية الضيقة كما يفعل العديد من الاصوات المؤيدة لهذا النوع من الانتحار السياسي بحثا عن مكاسب آنية ترضي الجمهور المتعطش للانتقام او مكاسب تنظيمية لا تراعي حجم الكارثة التي يتعرض لها الفلسطينيون ومشروعهم السياسي.

لقد صمد المفاوض الفلسطيني سبع سنوات دون ان يقدم اي تنازلات، وكان في هذا يحظى بتعاطف من قبل المجتمع الدولي، وجزء من الرأي العام الاسرائيلي، لكن الحال التي وصل اليها الفلسطينيون ضيعت هذا التعاطف واظهرت عجز السلطة وازدواجية خطابها وفشلها في وضع برنامجها موضع التنفيذ.

وهناك مسألة داخلية اكثر خطورة فللمعارضة الحق في التعبير عن رأيها والدفاع عنه، غير ان اللجوء الى المواجهة يتطلب رأيا جماعيا وقيادة موحدة للانتفاضة تحدد برنامج عملها حسب الظروف والمعطيات المحلية والدولية، اما ان يقوم كل تنظيم بعمل مستقل، سواء كان ذلك سياسيا او كفاحيا فإن معناه هو الفوضى والانتحار السياسي بعينه.

اما بعض القيادات داخل فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية المعروفة بمعارضتها لاتفاقيات اوسلو وما ترتب عنها، فأمرها محير، فقد دخلت الى الوطن تحت سقف هذه الاتفاقيات وحصلت على مناصبها وامتيازاتها بفضلها، بينما يعكس موقفها انتهازية غريبة وغير مفهومة، اذ تضحي بالمصالح العليا والمشروع السياسي الذي تعمل من خلاله.

ان الامر يتطلب وقفة شجاعة لاعادة الانتفاضة الى مسارها الاول والاتفاق على خطة عملها ايا كانت هذه الخطة، طالما حظيت بقيادة جماعية وبدعم المؤسسات الرسمية على ان يحدد هدفها بوضوح.

ان على السلطة مسؤولية تجاه شعبها فالاوضاع الاقتصادية المتردية تحتم عليها اتخاذ القرارات المناسبة لمعالجة مشاكل المواطنين، ثم الانتقال الى عملية حوار واسعة بالاصلاح الوطني والاقتصادي والسياسي يكون فيها المشروع السياسي الوطني الفلسطيني باقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس هدفا للجميع.

* كاتب وصحافي فلسطيني