تاريخ الرجال ورجال التاريخ

TT

عبر ثلاثة عشر اسبوعا تابعت، عبر فضائية الجزيرة، شهادة الرئيس أحمد بن بله على العصر، والتي تناولت جانبا هاما من كفاح الجزائر في سبيل استرجاع حريتها واستقلالها وعودتها الى حظيرة الوطن العربي والعالم الاسلامي، عضوا فاعلا ورصيدا ثريا وطليعة متبصرة في كل معارك الوطن وعمقا استراتيجيا للكفاح العربي ضد العدوان الاسرائيلي الاستيطاني.

والآن وقد استكمل الرئيس شهادته أحس بأن من واجبي ان اساهم، كمثقف، في استكمال وضع نقاط حروف، لم يتوقف عندها المناضل الكبير، عفة وكرما، وذلك عبر ملاحظات اراها من حق القارئ عليّ، كشاهد على الشهادة.

والملاحظة الاولى، قد تبدو عديمة الاهمية ولكنني آراها جديرة بالاهتمام.

فقد كان من الصعب ان يصدق المرء ان الرجل الذي يتحدث بحيوية ملحوظة وذاكرة متوقدة وادراك عميق لما يجب ان يقال وما يجب ان لا يقال هو رجل يحمل على كاهله عبء اربع وثمانين سنة، قضى منها اكثر من عشرين سنة بين السجن الفرنسي والاقامة الجبرية الجزائرية، وقبلها نحو ثلاثين سنة من النضال المتواصل ضد المستعمر، وبعدها سنوات طويلة في منفى اختياري ارتآه حتى لا يعطي أحدا فرصة استعماله كدكان تاريخي، وحاول خلالها ان يكون مفيدا لوطنه ولأمته في حدود الطاقة والامكانات المتاحة.

واتصور هنا ان حيوية الرجل تعكس ايمانه العميق بالله وبالوطن، وتترجم مقدرته على تجاوز المحنة الشخصية في مواجهة المحن التي تجتازها الامة ويعانيها الوطن، وهو لا يدخن ولا يشرب الخمور ويعيش دائما حياة المناضل الزاهد.

وهناك ملاحظة اخرى لا تخطئها عين من يتابعون مسيرة المجاهدين الجزائريين، وهي ان أحمد بن بله، الذي يملك عمقا نضاليا قل ان يتوافر لقيادات معاصرة كثيرة، ويملك رصيدا ثريا من الخبرات السياسية والميدانية، بفضل التجارب التي مر بها والمحن التي اجتازها، لم يحاول انتحال دور المعلم او اعطاء الدروس لأحد، سواء على الساحة الجزائرية او على الساحة العربية والدولية.

ولعلي ممن يملكون الحديث عن الرئيس الجزائري الاسبق بعيدا عن مظنة التحيز او شبهة الانحياز، وكنت اشرت الى علاقاتي معه في كل من حلقات «الزلزال» ثم «على عتبة قرن يحتضر»، ويهمني هنا ان اقول بأنني لم اتخل يوما عن حبه واحترامه وتقديره منذ عرفته في منتصف الخمسينات، عندما ذهبت للقائه في أحد مقاهي القاهرة، وعلى وجه التحديد في مقهى «الامريكين» بشارع طلعت حرب (سليمان باشا سابقا)، الذي كان واحدا من الاماكن العامة التي كان يستقبل فيها الطلبة، ورجوته ان يضمني الى قائمة المتطوعين لجيش التحرير.

واذكر انه تحمس في البداية ثم تراجع عندما عرف بأنني ادرس الطب، ورفض الموافقة على طلبي قائلا بأن الجزائر ليست في حاجة لي كجندي وانما كطبيب.

وتركت المقهى غاضبا، رغم محاولات الزميل عبد الحميد بو وذن استبقائي، وتوجهت على قدمي الى منطقة الدقي، حيث كنت اسكن مع بعض الرفاق.

وبعد نحو نصف ساعة، وكنت اجتاز جسر قصر النيل، توقفت بجانبي سيارة تاكسي كانت تقل بن بله وعبد الحميد، ووجدت نفسي في السيارة والزعيم الجزائري يطيب خاطري، ويحاول ان يشرح لي الموقف وكأنني صديق قديم له وليس مجرد طالب ليس في العير ولا في النفير.

والذي حدث هو انني لم استمع لنصح الرئيس بن بله والتحقت بجيش التحرير في العام التالي لاختطاف الطائرة المغربية التي كانت تقل بن بله ورفاقه الثلاثة، حسين آيت أحمد ومحمد بوضياف ومحمد خيضر (وقد سبق ان قلت انه كان في الطائرة خمسة ركاب من بينهم الزعماء الاربعة) واختتمت دراستي بعد استرجاع الاستقلال.

لكن الذي حدث هو انني كنت، ابتداء من منتصف الستينات وفي ظروف بالغة التعقيد، في الصف المعادي للرجل، حيث كنت آنذاك اعمل في اطار القوات المسلحة كمسؤول عن الخدمة الطبية ومحافظ سياسي للبحرية الجزائرية. وحدث ايضا، وبعد ممارسة طبية استغرقت نحو ست سنوات، ان مسار حياتي تغير بعد اختيار الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين لي كمستشار اعلامي.

في تلك المرحلة كان الرئيس الاسبق تحت الاقامة الجبرية في احدى الفيلات التابعة لرئاسة الجمهورية، وهي فيلا هولدن، التي تقع بنايتها وسط غابة مترامية الاطراف على الطريق المؤدية الى ولاية البليدة، وكان هدوء الغابة التي تحيط بالمنزل لا يقل وحشة عن الصمت الاعلامي الذي احاط بالرجل سنين طويلة، ولم يكن سرا ان بومدين تغدى بابن بله قبل ان يتعشى هذا به، وكانت الاستعدادات لعقد المؤتمر الافريقي الاسيوي مخدرا اعطى لخصوم الرئيس الاسبق فرصة الاطاحة به، كما قال لي الرئيس بوتفليقة شخصيا.

وكان ما حدث جزءا من الصراع السياسي الذي عرفته البلاد، لا ينفي وطنية كل الاطراف ولا يسيء الى نضالهم، ويسجل فيه للرئيس بو مدين حمايته الكاملة للرئيس السجين وحرصه على ان يعامل دائما بكل احترام وتقدير.

والتقيت بن بله بعد الافراج عنه في بداية عهد الرئيس الشاذلي بن جديد، وتوليت، بحكم مواصلتي لعمل المستشار الاعلامي مع الرئيس الشاذلي، صياغة البيان الرسمي الذي اعلن ذلك، وتعمدت استعمال تعبير: «الرئيس الاسبق»، بدلا من الاقتصار على صفة: «السيد»، التي كان بعض المسؤولين يحاول الاقتصار عليها.

والتقيت الرئيس الاسبق بعد ذلك في مناسبات عامة، وتعمدت يوما ان اقول له وبمحضر وزير الخارجية الجزائري الحالي الأخ عبد العزيز بلخادم، بأنني عملت مع الرئيس بومدين نحو ثماني سنوات كنت فيها من أقرب المساعدين اليه، ولم اسمعه يوما يذكره بسوء او يشير له بأي لفظ معيب، رغم الخصومة التي تبرر الانقلاب.

ويجيبني الرئيس الاسبق برقة قائلا: انه لا يشك ابدا في وطنية «سي» بو مدين (كما قال) ويقدر الاوضاع التي تداعت اليها الاحداث.

ورغم ان بن بله يعرف، كما قال لي آنذاك، بأن الرئيس الجزائري عبد العزيز بو تفليقة هو مهندس الانقلاب ضده فإنه، ومنذ رفع الرئيس لواء المصالحة الوطنية للخروج بالجزائر من الفتنة الدموية، تفادى اي اشارة لذاك الدور او محاولة لفتح الجروح الملتئمة.

وهنا تأتي الملاحظة الاساسية التي عكستها كل الحلقات المتلفزة، وهي انه بقدر ما كان بن بله متسامحا فيما يتعلق بشخصه، الا انه كان شديد القسوة فيما يتعلق بقضايا الوطن والثورة. وهكذا لم يضع اي قفازات مخملية وهو يتناول خلافه مع القيادات الوطنية التي اشرفت على عقد مؤتمر الصومام في أوت/آب 1956، الذي اعتبره خروجا عن العقد المعنوي الذي جاء به بيان ثورة اول نوفمبر 1954، خصوصا فيما يتعلق بالانتماء العربي الاسلامي للثورة الجزائرية، وهو ما تأكد عندما بدا واضحا لكل ذي بصر وبصيرة ان الاغلبية الساحقة من عناصر الاقلية التي هاجمت تصريحاته هي ممن يتناقضون مع التوجه العربي الاسلامي او ممن ينتمون الى التيار اللائكي، وهم الذين يسمون انفسهم بالقطب الديموقراطي، واصطلح على الاشارة لهم في الجزائر بالاستئصاليين، مقارنة بالتيار الذي يمثله بوتفليقة ويتعاطف معه احمد بن بله، وهو التيار المنادي بالمصالحة الوطنية.

وأنا اعرف ان هناك من سيحاول استغلال هذه السطور بتقديمها كإهانة لوطنيين آخرين رفضوا آراء بن بله، ولكنني لا اتصور ان يجاهر المرء بلائكيته ويتخذ مواقف علنية ضد الانتماء العربي الاسلامي ثم ينتظر مني ان اتستر عليه.

والذين تشنجوا ضد الرئيس الاسبق لم يخفوا انتماءاتهم، وهم يتهمون مدرسة الاستقلال بأنها انبتت التطرف الديني والارهاب الاجرامي، وكأن الرجال الذين يحاربون هذا وذاك ميدانيا تم استيرادهم من سويسرا او سكوتلاندا، وليسوا هم انفسهم من ابناء نفس المدرسة الجزائرية.

وليتضح ان الهدف الذي فهمه بن بله وتصرف على اساسه هو تحطيم مشروع المجتمع الذي تعمل له جبهة التحرير الوطني، والترويج لمرجعية فكرية تتناقض مع مرجعية الثورة الجزائرية، من اهدافها تخريب المدرسة الجزائرية الوطنية لصالح نظام دراسي مستورد، يكون استمرارا للمدرسة الاستعمارية التي تشكل امتدادا للفكر الفرانكوفوني، وبالتالي اداة للارادة الفرانكوفينية، وهي مرجعية تنسب نفسها، افتراء، لمؤتمر الصومام، الذي كان نقلة نوعية بالنسبة للثورة، ايا كانت التحفظات على بعض نتائجه او مدى تجسيده للاجماع الوطني.

وسنجد من بين اولئك من يعلن عداءه لعبد العزيز بو تفليقة بحجة انه يتجه للتحالف مع التيار الاسلامي لبناء الدولة الاسلامية، هكذا.

وربما كانت اكبر هزيمة لخصوم الرئيس الجزائري فشلهم في استقطاب التعاطف الشعبي، وادى التشنج الى شرخ واضح على الساحة بين اغلبية تتعاطف مع طروحات بن بله، لأنها تؤكد الانتماء الحضاري للجزائر، واقلية تحاول ان تعطي لبعض محطات الثورة اهمية تفوق حجمها الحقيقي بهدف التغطية على باقي المحطات.

ويثبت الشعب الجزائري مرة اخرى وعيه وتمسكه بالانتماء الحضاري للوطن.