قوافل التيوس

TT

يتوزع قراء «الشرق الأوسط» على الدول والامم والقارات، وعلى الشعوب والطبقات والفئات والاذواق والاهتمامات والهموم. يقرأها كل صباح طالب يعيش في شمس كاليفورنيا، ومغربي ذاهب الى عمله في الدار البيضاء، وسائح في جنوب فرنسا، ومصور سوداني في البحرين، ووزير الخارجية في مصر، وتاجر في عمّان، ومدير مصرف في الرياض. لكل من هؤلاء السادة مناخه الحياتي. وعلى الكاتب ان يجد دائماً ـ او غالباً على الاقل ـ موضوعاً يهم الجميع. سواء كتب عن لبنان او عن مصر او عن العراق. وهذا امر غير سهل. فالكاتب الذي يعيش في لبنان تغمره هموم «الخليوي»، واليوميات التي لا تعني شيئاً لأحد في اي مكان. واذا سافر الى باريس ورأى نفسه يكتب عن المسرحية التي حضرها في مسرح الدائرة التاسعة، شعر انه يكتب لنفسه وحدها، الاَّ اذا كانت المسرحية تعكس قضية انسانية عامة. واذا شاهد فيلماً لن يعرض في الرياض ولا في مراكش ولا في دمشق ولا في الجزائر، فلمن يكتب عنه؟

اخذت كل هذه العوامل والعناصر في الاعتبار وانا افكر في كتابة الموضوع التالي. فقد اصغيت الى برنامج في اذاعة «مونت كارلو» حول الناس الذين لهم وظائف ليلية، كالممرضين وموظفي المطارات. وقال اكثر المشاركين ان العمل الليلي مُتعب ويؤثر على الحياة العائلية ويلغي الحياة الاجتماعية ويسبب العزلة. وقال الطبيب مستشار البرنامج ان كل ذلك صحيح اضافة الى تأثيره على دور الامومة والابوة. ثم اُعطي الكلام الى شاب مصري يدعى «اسلام»، فقالت له المذيعة: «لا شك انك انت ايضاً لم تكن تحب عملك ليلاً في مطار القاهرة»، فاعترض «اسلام» بشدة: «ازاي؟ الليل اجمل وقت للعمل، عندما تهدأ القاهرة وتتوقف اصوات الكلاكس».

اردت ان اعلق على ذلك، لكنني قلت في نفسي ان القارئ في دبي لن يعرف اطلاقاً ماذا يعني «اسلام» بالراحة من «الكلاكس» او «الزمور». ولا القارئ في لندن. ولا القارئ في الخبر. ان المدن السعيدة الحظ ليس في ثقافتها شيء اسمه «الزمور». فهو فقط للمدن الحزينة. انه الجوقة التي تعيش على انغامها بيروت وتفيق. مثل كراتشي. مثل مومباي. مثل الوسط التجاري في جاكرتا. مواكب خلف مواكب خلف ارتال خلف طوابير من السيارات، لا عمل لسائقيها سوى التزمير. يزمّرون في الزحام. ويزمّرون في الانفراج. ويزمّرون عند الشارات الضوئية. وبعدها. وقبلها. يدهم على الزمور وقدمهم على دواسة البنزين. توت. توت. توت. كأنهم على اتفاق جماعي، منذ اللحظة التي يستفيقون الى اللحظة التي يتعب فيها الزمور. اما هم فلا يتعبون. ان الزمور حياتهم لأنه شقاء الآخرين. وسعادتهم لأنه تلفهم. وسلواهم طوال النهار مثل صرار الصيف الذي ليست لديه طريقة اخرى للتعبير عن الحر: زيء. زيء. زيء.

عبر «اسلام» العامل البسيط في مطار القاهرة عن ظاهرة جماعية غريبة من التخلف وفقدان الاحساس وقلة الذوق. شاب في مقتبل العمر يفضل العمل في الليل على ان يصغي الى ازعاجات النهار، وآداب المقود العربي، والهشلان والفلتان وقلة الخلق: توت. توت. توت، يا اخي لمن تزمر؟ ما هي المناسبة؟ لماذا تزمر علينا طوال الوقت بلا اي سبب؟ اي تمساح حضرتك؟ اي بلادة؟ اي أب عمل على تربيتك؟ توت.

المقود هو اكبر امتحان للاخلاق. وعندما ارى السائقين في بيروت لا يفسحون الطريق امام سيارة الاسعاف، بل يسابقونها، أسأل نفسي: هل يعقل ان كل هذه المئات من الناس، بلا اخلاق وبلا ذوق وبلا احساس؟ واجيب نفسي على الفور: طبعاً. طبعاً. فالتيس وحده يهز اجراسه المعلقة في عنقه من دون مناسبة إلا للتذكير بوجوده. وهذه القوافل المزمرة هي قوافل تيوس. ولا اعتذار. انا مستعد لإثبات ذلك، بمساعدة طبيب نفسي واستاذ اخلاق وشرطي مسكين لا عمل له سوى ان يشهد ويسمع طوال النهار قوافل التيوس، تعزف لنفسها على اعصاب الآخرين.

أقترح على الحكومة المصرية والحكومة اللبنانية وجميع الحكومات السعيدة، ان تسجل يومآً واحداً اصوات الزمامير في القاهرة او بيروت، وان تعرض النتيجة على اي مصح. وبعد ذلك فقط تتأكد ان سبب احباط الناس ليس فقط حال الاقتصاد والقلق، بل هو خصوصاً هذا العدوان اليومي الذي ترتكبه التيوس الفالتة في حق خلق الله وعباده وخائفيه، الذين انعم عليهم ببيوت يتعلمون فيها ان من بين جميع الحيوانات التيس وحده يزمر، بلا مناسبة او سبب، فقط لمجرد انه علق جرس.