لعنة الاحتراب العراقي والحاكم الوطن

TT

جذور المرارة لدى العراقيين، فيما يبدو، تعود إلى تاريخ ولادة لعنة الاحتراب العراقية، يوم ولادة الدولة العراقية الحديثة عام 1920، وفق الصيغة البريطانية، حين تسلمت «نخبة» من العراقيين تم اختيار أفرادها بما يشبه الخبط العشوائي، حكم العراق، زاعمة لنفسها حق التصرف بالعراقيين على اختلاف طوائفهم وأديانهم، دون تفويض شعبي حقيقي يذكر.

ومنذ اليوم الأول لحكم النخبة، كان هناك حد فاصل بينها وبين شرائح عديدة من العراقيين، سياسية وعشائرية ودينية وطائفية، عارضت «الصيغة» البريطانية لحكم العراق. وتراوحت معارضتها بين العمل السياسي السري والعلني، السلمي والصدامي أو المقاطعة. أما المعارضة، التي كانت تتم داخل الهيكل «النخبوي» ذاته، فلم تخرج عن صيغة صراع «دببة» الكرم الواحد، على المتاح من الغنائم. فالنخبة تملكت العراق بالكامل وتحتكر إدارته. وكان أكبر أقطابها ـ عربا وأكرادا، شيعة وسنة ـ يتداولون رئاسات الوزارة ومجلسي الأعيان والنواب. كما أن عضوية الوزارة ومجلس الأعيان، وحتى الترشيحات النيابية والمراكز الأخرى صغيرها وكبيرها، تتم وفق نظام الولاء لسلطة النخبة الحاكمة. ومع أن تلك النخبة قد اتخذت الشكل الديمقراطي التعددي للحكم، إلا أن ذلك لم يكن ليتسع للرأي الآخر إلا في النادر اليسير. وحين فازت المعارضة «الموحدة» في عام 1954 بمقاعد في مجلس النواب، اكثر من المسموح به من قبل الحاكم، تم حل المجلس وأعلنت الأحكام العرفية في البلاد.

وتخبر الوقائع، بأن الكرد لم يكونوا بمنأى عن لعنة الاحتراب، التي انبثقت في الحياة السياسية العراقية. فقد كانوا عراقيين، أخذت «النخبة» بعضهم بينما أخذت المعارضة بعضهم الآخر. وكانت الحركة الوطنية قد أصبحت جبهة سياسية معارضة موحدة في الخمسينيات، وكان الكرد جزءا كبيرا منها. وهذا ما يبرئ الشعب العراقي العربي مما فعلته «النخبة» بالأكراد، ومن مسؤولية القبول الشامل بتسلط فئة من أبنائه على حكم الفئات الأخرى بالنار والحديد.

ويقول التاريخ إن المرحلة الأولى من حياة الدولة اليافعة شهدت ولادة نموذج «الحاكم الوطن» الذي يحتكر ـ وحده ـ مشروعية البطش بالرأي الآخر. وشهد حكم «النخبة» الملكية، استنادا إلى هذا النموذج، قهرا سلطويا منظما للمعارضة. ودشنت «النخبة» سجونها بضحايا المعارضة، لأول مرة، في إضراب عمال السكك عام 1945، وإضراب عمال الموانئ عام 1947، و1948، وقبل ذلك في عام 1941 في حركة رشيد عالي الكيلاني، إلى حدٍ ما. ورغم أن قوة الدفع الشعبي هبت للدفاع عن ضحايا الرأي الآخر بعفوية، إلا أن المعارضة لم توفق ـ بسبب الولاءات الحزبية والعشائرية والطائفية والعرقية ـ في إنضاج هذه القوة وتطويرها وتحويلها إلى كفة عراقية موحدة راجحة في اللعبة السياسية العراقية. الأمر الذي اضطر بعض أطرافها إلى الاستعانة «بعضلات» المؤسسة العسكرية، التي كانت «النخبة» قد هيأتها للدفاع عن وجودها في صيغة «الحاكم الوطن». وتطوع ضباط «أحرار» لاقتلاع حكم النخبة عام 1958. لكن بذرة «الحاكم الوطن» كانت قد تجذرت في الشخصية السياسية العراقية. فتأسست «نخبة» جديدة تزعم أن الحاكم هو الوطن، وأن من يعارضه يعارض ذلك الوطن.

لم تكن القضية، في جميع مراحل الدولة العراقية، مطروحة على أساس أن قومية تضطهد قومية أخرى، أو طائفة تستعمر طائفة أخرى غيرها. ولعل أول مظاهر الصراع الكردي ـ الكردي، مثلا، تمثل في التوصية التي رفعها وزير داخلية الحكم الملكي، المواطن «الكردي» سعيد قزاز، بشأن المرحوم الملا مصطفى البرزاني، طالبا تهجيره إلى جنوب العراق لكي تتخلص البلاد من شروره، على حد قوله، ناعتا إياه بنعوت لا يليق بنا نقلها.

وفي قمة حكم «النخبة»، سواء في الحكم الملكي أو الجمهوري، كان هناك أكراد يمسكون بأخطر المناصب والمواقع، كما كان هناك، في المعارضة أيضا، أكراد يتبوأون مراكز قيادية أولى في الأحزاب الوطنية، خصوصا في الحزب الشيوعي العراقي. وكثيرون من العرب العراقيين سقت دماؤهم تربة كردستان جنبا إلى جنب مع الأكراد دفاعا عن حقوق الشعب الكردي، كما أن كثيرين من الأكراد أيضا شاركوا العراقيين العرب في محاربة الأكراد وسفك دمائهم. بعبارة أخرى، لم تكن بغداد عربية ولا كردية، لا سنية ولا شيعية. بل كانت هي «بغداد النخبة»، وكان الوطن كله محمية «بغدادية» والعراقيون، جنوبا ووسطا وشمالا، شركاء متساوون في تقاسم المواقع مع النخبة أو ضدها. وكانت بغداد تفتح ذراعيها، كما هي الآن، لمن يريد أن يخدم «الحاكم الوطن» ويأكل من عطاياه، أو تفتح نيرانها على من ينكر عليها صلاحية التسلط وحق احتكار الوطن والمواطنة.

أما من اتى اليوم من الأكراد أو الشيعة العراقيين في مؤتمر لندن، واهما أو مغرضا، لكي يحمل فئة أو طائفة أو قومية جريرة ما حل بالعراق والعراقيين، إنما حاول إلغاء التاريخ ليؤسس لحكم «نخبة» جديد. فالحقيقة القائمة تقول، إن من صنعوا حزب البعث وأفرزوا ديكتاتوريته وسلموا الوطن لصدام حسين، ليسوا سنة العراق وحدهم، ولا شيعته وحدهم، ولا أكراده أيضا، بل ذلك الخليط من المصالح المتشابكة التي وجد فرصته في الظهور، بسبب اختلال القوى والموازين والمفاهيم. ألم يتحالف الحزب الشيوعي مع صدام حسين ويمنحه غطاء الوطنية ولو لفترة غير طويلة؟ ألم يشارك «أكراد» في حرب «أكراد» لصالح صدام حسين؟ ألم يشكل الشيعة غالبية المقاتلين الأشداء في حرب صدام العبثية الغبية مع إيران؟ ألم يشترك القادة الحزبيون والعسكريون «الشيعة» مع القادة الحزبيين والعسكريين «السنة» في قتل ثوار الانتفاضة «الشيعة» في الجنوب والتمثيل بهم على شاشات التلفزيون؟ ألم يسفك حزبيون وعسكريون «سنة وشيعة وأكراد» دم أفراد وأحزاب وأسر سنية أيضا؟

مؤتمر لندن أحزننا حين قدم لنا نموذجا مصغرا من «العراق التعددي الديمقراطي العادل»، الذي ظل فرسان «الأطراف الستة» يعدوننا به طيلة عشر سنوات أو يزيد. إنه نخبة صغيرة جديدة من العراقيين تريد أن ترث نخبة أخرى، لتحتكر بغداد وتجعل من باقي الوطن محمية جديدة من أسلابها.

مرة أخرى، حاول مؤتمر لندن أن يجعل من «نخبة» الستة، أو من بعضها، ذلك «الحاكم الوطن» الذي يوزع الوطنية والخيانة على الآخرين. وكنا نعتقد بأن ما مرَّ بنا من كوارث، منذ تأسيس الدولة العراقية إلى اليوم، كافٍ لوحده بجعلنا نكتشف أن شراكة صادقة وعادلة وحقيقية في أعباء النضال وآلامه بين أبناء الوطن الواحد، وهم في الغربة، ينبغي أن تظل شراكة صادقة وعادلة وحقيقية بينهم وهم عائدون إلى الوطن. فهي وحدها الكفيلة بأن تؤسس «للوطن الحاكم» وليس العكس، بعيدا عن أية دوافع طائفية أو عرقية أو دينية أو حزبية ضيقة، أو مصالح قوى أو دول أخرى تتحرك من وراء الستار، فتضع لنا مناهجنا، وترسم لنا خططنا لمستقبل أجيالنا القادمة، وتمنح بعضنا، وتمنع عن بعضنا حق العودة إلى ذلك الوطن الذبيح.

* سياسي وإعلامي عراقي