هيئة إنقاذ عراقية ؟

TT

إذا كان لظروف السياسة والجغرافيا في العراق، وأخطاء سلطته التاريخية، ان جعلت منه موقعاً أولياً لحرب تغيير كبرى لعالم عربي جديد، ستزاح فيه بالقوّة نظم العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، وسيتم استبدالها بأخرى ، فإن لحظة تفجرها المحسوبة بالأيام والساعات تنتظر قدح شرارة خطأ فني عراقي تجاه منظومة التفتيش، أو القرار 1441، لكي يتوزع الدم العراقي، من الذمة الأميركية المستثمرة لمحصوله، إلى ذمة المجموعات الدولية والاقليمية والعربية، وحتى العراقية. وهي حرب ستتفجر وفق واحد من سيناريوهاتها المسربة لوسائل الإعلام، سواء في تنصيب حاكم عسكري أميركي، ثم إقامة إدارة مدنية دولية مشتركة، أو تشجيع ومساندة انقلاب عسكري داخلي وكان لسيناريو الاعتماد على أداة «المعارضة العراقية الخارجية»، أن ينتقل من مؤخرة الاهتمامات الأميركية إلى مقدمتها. لو تمكنت مجموعة (الستة)، بعد تلقيها قرار الإدارة الأميركية بتنظيم مؤتمر عراقي شامل، من تجاوز رغبة الاستحواذ على تقسيم «الغنائم» ووضع المصالح العراقية في مقدمة اهتماماتها، والتعبير عن ذلك بالمبادرة للاتصال وفتح حوار جدّي مع القوى والشخصيات العراقية المهمة التي لم تكن لديها صلة بدوائر العلاقات الأميركية لاعتبارات مبدئية في ظرفها، وإقامة لجنة قيادية للإعداد لمؤتمر عراقي يمثل الغالبية المطلقة للقوى العراقية بتيّاراتها المختلفة (الدينية والقومية واليسارية الديمقراطية)، ومن ممثلي مكونات الشعب العراقي يتمكن من وضع برنامج إنقاذي لدور عراقي خلال مرحلة الاجتياح العسكري الأميركي ومسؤوليات التغيير، يكون متناسقاً مع دور قوى الداخل المنتظر والمراهن عليه.

وبدلاً من ذلك تمسكت بعض أطراف مجموعة «الستة» بتكريس السلوك الانفرادي الغريب، رافضة العديد من المقترحات البناءة الداعية إلى توسيع اللجنة التحضيرية، مما دفع ببعض ممثلي التيار العروبي القومي للتعبير عن هواجس وقلق غالبية القوى السياسية في الخارج، ومن يساندها في الداخل، بمذكرة سياسية مباشرة للمسؤولين الاميركيين عن الملف العراقي، بتاريخ 28/11/2002، أعقبها بعدة أيام، لقاء تم في لندن بين ممثلين عن هذا التيار والسفير الأميركي في المعارضة زلماي خليل زادة بناء على طلبه. وعلى الرغم من الرغبة الجدّية لدى المسؤول الأميركي في الاستماع إلى تلك الآراء والمقترحات المختلفة عما في ملفاته، إلاّ أن ضيق فترة مهمته في عقد مؤتمر لندن بموعد لا يتجاوز الخامس عشر من ديسمبر (كانون الأول)، قد عطّل مختلف «إمكانيات حل الأزمة» التي لم تبد بالنسبة لحسابات الاميركيين مهمة أمام حرصهم على تأمين متطلبات اجتياحهم الحربي من جانب إيران، بعد أن تحقق ذلك بسهولة مع انقرة. ولهذا كانت واحدة من عناصر الصفقة الإيرانية ـ الأميركية التي أعدّ لها بعناية، تأمين ظلال إيرانية داخل قيادة المعارضة العراقية في هذه المرحلة، والايحاء لها بدور مستقبلي في العراق، إلى جانب الشراكة الرئيسية مع الأكراد، مقابل تخلي إيراني عن أي دور محتمل يعوق المخطط الحربي الأميركي داخل العراق، مع مكاسب أخرى وعد بها الإيرانيون لا مجال لذكرها هنا. ويبدو ان الإعلان عن اجتماع طهران بين السادة محمد باقر الحكيم ومسعود البارزاني وأحمد الجلبي، عشية انعقاد مؤتمر لندن المظهر الرمزي الاعلامي عن جانب من تلك الصفقة. وفي تعبير عن اعتراف بخطورة تغييب التيار العروبي القومي ومكونات الوسط العربي السني في ذلك المؤتمر، أدخل كل من السيدين جلال الطالباني ومسعود البارزاني، وبمناورات شاقة، بعض أصدقائهم الشخصيين، من ذلك الوسط، تحت عنوان «المستقلين» من دون أن يؤثر ذلك على التركيب الأساسي لقيادة المؤتمر ولجنته التنفيذية.

لقد كشف ذلك «المهرجان الخطابي» عن تراجع الوطنية العراقية، وعن مظهر من مظاهر صراع الهويات، بالتقاء دعاة تغييب هوية العراق العروبية بصفقات مؤقتة. وحصل تجاوز على أبسط قيم العمل الوطني، بتكريس النزعات الطائفية والعرقية وما تحمله من مخاطرعلى المستقبل السياسي العراقي. وليس من الصحيح تفسير تلك الظواهر «بالبرلمانية» أو في الدعوة لحلول ترقيعية في توسيع لجنة المتابعة من دون تغيير في جوهر مكوناتها.

لقد انتهت وظيفة مؤتمر «لندن» أميركياً عند حدود نهاية ذلك الاجتماع. وقد حققت لهم بعض أطرافه ما يلبي احتياجاتهم اللوجستية على الحدود الشرقية من العراق، أما حاجاتهم الأخرى في داخل العراق خلال الاجتياح وبعده، فإن غياب امكانيات الجماعات السياسية العربية، وليس الكردية، قد يجعل الاميركيين يوظفون بعض عناوينها في الفترة الحرجة، ويعتمدون في صفحات لاحقة، على أدوات عراقية أخرى في ميادين الخدمات المدنية الإعلامية والتعبوية. ومع ذلك هناك البعض ممن يراهن على ضرورة إبقاء دور للقوى السياسية العراقية في الخارج، وتجاوز ما نتج عن «مهرجان لندن» بالتقاء القوى الوطنية العراقية على منهج وطني مستقل لا يتبع الأجندة الأميركية، وقد يلتقي مع بعض مراحلها وفق ما يحقق مصالح وأمن ووحدة العراقيين، وليس من بينها الموافقة الضمنية وليست العلنية حسب، على توجيه ضربات عسكرية تدميرية تستهدف أبناء العراق من العسكريين والمدنيين، وبنيته التحتية التي توفّر حالياً لأبنائه الحد الأدنى من الحياة. فالدافع واحد خلف من يشيع معادلة «تدمير العراق لإسقاط صدام حسين، أو تدميره كله أو جزء منه بسلاح تدميري يمتلكه صدام حسين للدفاع عن نظامه»، لأن الكارثة هي نفسها وإن كانت بدرجات متفاوتة. والمقترح المعقول لإخراج المعارضة العراقية الخارجية من أزمتها الحالية، لكي تكون مقبولة لدى العراقيين، واشقائهم العرب في الدول المعنية بمستقبل العراق السياسي، وغير مقلقة لدول الجوار الإقليمي هو :

أولاً: لما كانت لجنة المتابعة لا تشكّل مرجعية سياسية للمعارضة العراقية، لكون قرارات مهرجانها الخطابي لا تتوفر على أدنى حدود الشرعية الديمقراطية والسياسية، فإن القوى التي عملت على إقامته، أو بعضها، من كردية وعربية ومعها قوى التيار العروبي القومي واليساري الديمقراطي والديني، التي قاطعت مؤتمر «لندن» أو تغيبت عنه، تمتلك فيما إذا توفرت لديها الإرادة الحرة، امكانيات المبادرة لتحرك عاجل واجراء اتصالات فيما بينها ودعوة ممثليها لاجتماع مصغّر لا يتجاوز عدده خمسة وعشرين.

ثانيا: لكي يكون هذا الاجتماع محققاً لأغراضه السريعة، وبعيداً عن خلافات الحصص، يكون التمثيل فيه قائماً على أساس القوى السياسية والشخصيات المعبرة عن مكونات الشعب العراقي بلا تقسيم طائفي أوعرقي، ولكن من دون الاخلال بالقوتين الكردية والعربية المعبرتين عن الواقع السياسي العراقي الحالي.

ثالثاُ- يضع هذا الاجتماع برنامجاً إنقاذياً عاجلاً، وتكون اجتماعات «هيئته القيادية» مفتوحة لمواجهة ظروف المخطط الحربي الأميركي بجميع فصوله، ويصبح خطابها السياسي والاعلامي مرجعاً وطنياً ورسالة لجميع العراقيين من دون تمييز عرقي أو طائفي، من الدخول في مآزق «الحكومات المؤقتة ودساتيرها أومجالسها»، مع اهتمامه بأولويات دعوة قوى التغيير الداخلي الرئيسية لتحمّل مسؤولياتها في حماية أمن العراقيين ووحدتهم، وحقن دمائهم.

* سفير عراقي سابق