قليل من المعنى.. كثير من المعنى.. ضياع المعنى..

TT

قد يكون قرد الشمبانزي شبيها بالإنسان بما يقارب 98% شكلاً وتشريحاً، كما يقول مات ريدلي مؤلف: «الجينوم: السيرة الذاتية للنوع البشري»، ولكنه حتماً يختلف عنه 100% نوعاً. فابتداءً، تتكون الخريطة الجينية للإنسان من ثلاثة وعشرين زوجاً من الكروموسومات. وعلى هذه الكروموسومات تتوزع الخريطة الجينية التي تحدد صفات الإنسان من جسم وعقل وذكاء ونحو ذلك، بحيث يمكن تسميتها بـ«اللوح المحفوظ» للعرق البشري. وهذه الخريطة الجينية تحتوي على ما يقارب ستين إلى سبعين ألفاً من الجينات التي تنتشر على كل مجموعة من زوجي الكروموسومات الاثنين والعشرين، حيث الزوج الثالث والعشرون هو كروموسومي الجنس (XY). وعلى هذه الجينات مكتوبة كل صفات الكائن. وهذه المجموعة من الكروموسومات، بكل جيناتها، توجد داخل النواة السوداء للخلية الحية. ويتكون جسم الإنسان من مائة تريليون، أو مائة مليون، من الخلايا الحية. جين واحد فقط من آلاف الجينات تلك، قد يكون هو الفيصل بين الجنون والعبقرية مثلاً، أو بين الذكاء والغباء في العرق الواحد. وكروموسوم واحد فقط من تلك الكروموسومات القابعة على لولب في نواة خلية من مليارات الخلايا، يكون هو الفيصل بين الإنسان وغيره من الكائنات الحية. فالقردة العليا مثلاً، مثل الشمبانزي، تتكون خريطتها الجينية من أربعة وعشرين زوجاً من الكروموسومات، أي بفارق كروموسوم واحد عن الإنسان. ولكن هذا الكروموسوم هو المسؤول عن أن يصبح أحدهما صانعاً للحضارة وخليفة لله في أرضه، والآخر بهيمة غير مؤهلة لحضارة أو خلافة..مجرد كروموسوم بسيط في غاية الدقة والضآلة، ولكنه يحمل كل الفرق بين البهيمية والحضارة. والفرق لا يكمن في العدد أو الكم، فالشمبانزي أكثر عدداً من الكروموسومات، ولكنه يكمن في المعادلة وسر المعادلة. فالكم بذاته ليس هو المهم، بقدر ما أن المهم هو كيف يكون هذا الكم، وعلى أي أساس يتكون. والفرق بين الذهب النفيس وغيره من معادن رخيصة، هو فرق في عدد البروتونات والنيوترونات التي تدور حول نواة الذرة. خذ الكتروناً من هنا وأدخله هناك، أو نيتروناً من هناك وأدخله هنا، يتحول النفيس إلى رخيص، ويتحول الرخيص إلى نفيس، ويتحرك الساكن، ويسكن المتحرك، والأمر يكمن في المعادلة من قبل ومن بعد.

والحقيقة أننا لسنا في مجال تحليل علمي هنا، فهذا أبعد ما يكون عن معارفنا ومقاصدنا، بقدر ما أن الأمر متعلق بمجرد ضرب مثل، والله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها، من أن الفروق النوعية بين الأشياء قد تكمن في أمور أبسط مما نتصور، وقد تكون من الأمور التي نحتقرها كماً، ولكنها عظيمة الأثر كيفاً، وذلك مثل تلك القشة التي قصمت ظهر البعير، أو قطرة الماء التي فتتت الصخر، وأغرقت القرى. فالفرق بين السم والترياق مثلاً ليس في مادة كل منهما، فقد تكون المادة واحدة، ولكنه يكمن في النسبة التي يتكون منها هذا أو ذاك من ذات المادة: نسبة معينة، أو كمية معينة تجعله ترياقاً، وأخرى تجعله من السموم، وذلك مثل قصة «الجاهل عدو نفسه» التي لُقناها صغاراً، ولم نستفد منها كباراً. فمريض القصة وصف له الطبيب علاجاً يأخذه بقدر كل يوم، فلما أحس بالعافية تسري في عروقه الذابلة، أراد أن يتعافى بسرعة، فوجد، بمنطقه السقيم، وإن بقي منطقاً في أي حال، أن الطريق إلى ذلك يكون بأخذ العلاج كله دفعة واحدة، فكان أن مات، وتحول الترياق إلى إزهاق. والعسل ليس مجرد أخلاط عشوائية من رحيق الزهور، كما أن الحرير ليس هو ورق التوت الذي تأكله دودة القز، فحشرات كثيرة تمتص الرحيق وأخرى تأكل ورق التوت، بل هو قدر معلوم من نسبة معلومة، أو لنقل معادلة في غاية الدقة لكل ما يدخل جوف حشرة، ولكنها ليست كأي حشرة. كل شيء بقدر، وذلك كما يقول خالق البشر: «إنا كل شيء خلقناه بقدر» (القمر 49)، «الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في المُلك وخلق كل شيء فقدره تقديراً» (الفرقان 2).

معلومات لا جديد فيها، ونتائج لا حديث فيها، ومنطق مفهوم، ولكن، ورغم كل ذلك، فإننا نمارس في كثير من أمورنا خلاف ما هو معروف بالبداهة قبل أن يقول العلم شيئاً أو تتحدث الحكمة عن ذاتها، وفي أمور هي أشد ما يكون أثراً وخطراً. فنحن نلوم الغرب مثلاً على إغراقه في مجرد المادة وغياب المعنى، كما يقول الفلاسفة، أو الروح، كما يقول أهل الدين، وهذه تهمة قد يكون فيها الكثير من الصحة، وإن لم تكن صحيحة تماماً، فهناك خلل لا ريب فيه في معادلة حضارة العصر، فهناك كروموسوم ناقص أو زائد في هذه الحضارة، أو ربما كان جيناً أو جينات لا تصل إلى مستوى الكروموسوم. فالقوة والثروة وتحقيق الذات في هذه الدنيا، تبدو وكأنها هي الغاية الوحيدة التي تقف وراء حركة الإنسان المعاصرة في الغرب ومبلغ مبتغاه، وهذا شيء جيد في كثير من أبعاده ولا غبار عليه. ولكن لا القوة بذاتها، ولا الثروة بذاتها، ولا تحقيق الذات منقوصاً، يمنح المعنى في النهاية، وهنا تكمن أزمة حضارة الإنسان في هذا العصر. ولكن، وكما يُنتقد الغرب على انتفاء المعنى في الحركة والغاية، فإن الشرق لا يقل عنه أزمة، إن لم تكن أزمات.

ففي الشرق، وفي منطقتنا من الشرق تخصيصاً، يتحول المعنى الذي يُحاكم من خلاله الغرب، وهو معنى مؤسس على قواعد من الدين والأخلاق، إلى كابوس يشل الحركة، ويقضي على معنى عمارة الأرض ذاتها، التي هي غاية المعبود من خلق العابد في النهاية. فالعبادة ليست مجرد شعائر وطقوس معينة، بقدر ما هي عمل وحركة في عمارة الأرض، وشعائر دون عمل، مثلها مثل عمل دون غاية: انتفاء المعنى، أو الغرق في المعنى، وكلا الأمرين خلل في معادلة الوجود. فالقضية في النهاية قضية معادلات إذا اختل جانب منها، اختل الجانب الآخر. فحضارة الإنسان في الغرب المعاصر رائعة في معظم جوانبها، وهي التي قدمت للإنسان، من خلال العقل والعلم، كل جميل ومفيد في الحياة، وسواء كنا نتحدث عن نظم في السياسة والاجتماع، أو منجزات في التكنولوجيا ومبتكرات العقل، رغم انفلات العقل من عقاله في أحيان كثيرة، حين يتحول الإنسان ومن خلال ذات العقل، إلى عدو لنفسه. حضارة الإنسان المعاصرة، أي الحضارة الغربية، سوف تصطدم ذات يوم بأزمة المعنى. فكل هذه الإنجازات والمنجزات تغلفها ضبابية المعنى العميق لكل ذلك. إنتاج وإنجاز وتطوير لحياة البشر، رغم كل الانفلاتات، ولكن ماذا بعد ذلك؟ ما معنى كل ذلك؟ غياب المعنى هذا عبارة عن جدار ستجد الحضارة المعاصرة نفسها في مواجهته ذات يوم، وقد بدأت بوادره في تلك الأزمات «الروحية» أو الفكرية التي يواجهها الفرد في المجتمعات الغربية. وسواء سمينا هذه الأزمات الروحية غربة أو عبثية أو أزمة ما بعد حداثة، كما يصفها الفلاسفة الجدد، إلا أنها في النهاية تعبير عن أزمة المعنى هذه.

وقد يفرح البعض في الشرق بمثل هذه الأزمات في الغرب، ويأملون بسقوط الغرب من خلال ذلك، وقد يكون ذلك صحيحاً وقد لا يكون صحيحاً، فهذه قضية فيها جدل طويل. ولكن ما يمكن التأكد منه هو أن الشرق، وشرقنا العربي خاصة، لن يكون هو البديل ولن يكون هو الحل في وضعه القائم. فإذا كان إنسان الغرب يمر بأزمة ما بعد الحداثة، وأزمة المعنى في حركته الحضارية، فإن إنسان الشرق هنا يمر بأزمة ما قبل الحداثة، أو حتى فخ ما قبل الحداثة. فهو فخ من حيث أنه يطرح نفسه كحل لأزمات معاصرة، فيما هو ذاته يحتاج إلى حل في تكوينه. أزمة شرقنا تكمن في هيمنة المعنى دون أن يكون للمعنى أي معنى في النهاية، وكلا الأمرين يعبر عن «كروموسوم» ناقص أو زائد. فإنسان الشرق، وشرقنا نحن بالذات، لديه أزمته أيضاً، وقد تكون أشد من أزمة الإنسان هناك. الأزمة هناك أزمة معنى في النهاية، والأزمة هنا أزمة إفراط في المعنى، مما قد يعني ضياع المعنى ذاته حيث ينقلب كل شيء إلى ضده حين يزيد عن حده كما يقولون. ففي الكهرباء، تؤدي شحنة معينة إلى الصعق حتى الموت، ولكن عندما تزداد الشحنة إلى حد معين، فإنها تفقد تأثيرها بشكل مطلق. نعم، هي معادلات، من تجاهلها فقد الاتجاه، وضاع في لجة ضياع لا يدري أين تبدأ وأين تنتهي.

ومن قبيل ذلك، فنحن نفخر على الغرب بهيمنة قيم الدين وغيرها في حياتنا، فيما هم في الماديات يعمهون. قد يكون ذلك صحيحاً، وهو ليس صحيحا على إطلاق العبارة، فالمسألة تحتاج إلى سبر أعمق، ولكن على افتراض أن ذلك كله صحيح، فإن المعادلة إذا كانت تعاني الخلل هناك، فإنها هنا أكثر اختلالاً. فالدين مثله مثل الدواء سواء بسواء: قدر معلوم منه مهم لصحة الجسد، والفائض منه موت لكامل الجسد. ألم يقل عليه الصلاة والسلام ما معناه بأنه سيظهر في آخر الزمان أقوام تحتقر صلواتنا وعباداتنا مقارنة بصلواتهم وعباداتهم، فجباههم متقرحة من أثر السجود، وبطونهم ضامرة من أثر الصيام، وعيونهم ذابلة من أثر السهر، ولكنهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية؟ كيف يمرق من الدين من كانت حياته كلها ديناً؟ وألم يغضب صلى الله عليه وسلم من أولئك الذين كانوا يصومون النهار ويقومون الليل ويعتزلون النساء، فيما هو، الذي يأتيه الخبر من السماء، يصوم ويفطر، وينام ويقوم، ويتزوج النساء؟ كيف يغضب مبعوث صاحب الدين من أناس أصبحت حياتهم كلها دين؟ قصص كثيرة، وكلها تصل بنا إلى جواب واحد: خرجوا من الدين لأنهم حولوا كل شيء إلى دين، والوجود دين ودنيا، فكان ذلك نوعا من الإخلال بمعادلة من معادلات الوجود على هذه الأرض، حيث كل شيء بقدر، وكل شيء وفق معادلة متساوية الطرفين. هناك، حولوا كل شيء إلى دنيا، فأضاعوا الدين، أو لنقل المعنى والغاية، وربما فقدوا الدنيا ذاتها حين ينفلت العقل ذات مرة، فيكون انفلاته دماراً شاملاً هذه المرة، كما كاد أن يكون في حالات كثيرة. وهنا، حولنا كل شيء إلى دين، فأضعنا الدنيا، رغم كل المعنى، وربما فقدنا الدين جملة وتفصيلاً، حين تصبح الروح كياناً يشل الجسد، بمثل ما أن الجسد أصبح كياناً يشل الروح هناك، وكلا الأمرين في النهاية يؤدي إلى ذات المعنى وهو اللامعنى...