حواف الوقت

TT

الانتظار على حافة مواقيت معينة يربكني ويدفعني للتساؤل عن سبب تعامل البشر مع العام الجديد كمكان عذري يحمل الوعد بحياة مختلفة. يتحد الزمان بالمكان وتصير للفكرة الجديدة حدود مادية واضحة، عام جديد بأرض بكر لم تطأها قدم بعد، وان كان خيال الفلكيين جال فيها وقرأ ظلال الكواكب والنجوم على تربتها، وتوقع ما سيكون عليه خطو البشر فوق سطحها.

ليلة رأس السنة، ازدحمت المحطات التلفزيونية بالتوقعات الفلكية المبشرة والمنذرة بما هو قادم، فزاحمت تحليلات اخبار السياسة والاقتصاد. ما أهمية أن تخبرنا نبوءة بأن شباط سيكون اسوأ شهور السنة، ان كانت الرياح القادمة من واشنطن حملت التهديدات مسبقا، متوعدة بأن تشن فيه ثاني حروب القرن!

ما الذي يعنيه دخول عام جديد.. ولماذا يستقبله العالم بكل هذا الكم من الضجيج والصراخ وشهقات الفرح، كأنه نجم مشهور وصل تواً الى قاعة الحفل؟

لماذا يفرح الانسان بفترة زمنية تحمل رقما جديدا لا يعني سوى بداية عد تنازلي لصلاحية الشرايين، أو لعمر الارض، ان كان لها عمر محدد مثل ساكنيها؟

لماذا نستسلم للأرقام وقوتها، والانسان هو الذي اخترع الارقام ثم منحها سلطة على اقداره؟ اقتران الزمن برقم محدد يذكر المرء بتراكم الوقت، ان كان قد نسي. أو كما يزعم العرافون بأن «مصائرنا ترتبط بأرقام اسمائنا وتواريخ ميلادنا». سلطة اخرى تأسرنا في الرقم وكأننا لسنا أكثر من سمك وقع في شباكه.

و ان كان اختراع الكتابة ساهم في انتقال الافكار والفلسفة الانسانية ووثق للذاكرة البشرية، فبدأت الحضارة الانسانية مع بداية التعبير بالحرف، فان الارقام كانت بوصلة تحركات الانسان في الواقع، حيلة اخترعها لكي ينظم وقته. لولا الرقم، ما أمكن تحديد اليوم بساعاته الاربع والعشرين، لا الأشهر ولا السنوات. ترقيم الوقت ساعد الانسان على برمجة مواعيده، فعرف متى يجب ان يبذر ومتى يحصد ومتى تلد امرأته، وأيضا متى يشن الحروب!

من دون الارقام كيف يمكن لأي قائد عسكري ان يحدد ساعة الصفر، او يقرر لحظة بدء وقف اطلاق النار ان اراد ان يجنح للسلم قليلا!

لولاها، كيف كان لبوش ان يحدد موعد قصف العراق، أو موعد تحرك قواته وعتاده العسكري الى أي منطقة ينوي قصفها، باستعراض عسكري مهيب؟!

يقال ان جورج بوش الأب كان يستشير العرافين في مواقيت تحركاته وقراراته السياسية والعسكرية، فهل اشار العرافون على الابن بموعد تتفق فيه الحسابات الفلكية لزحل، كوكب الحروب، مع الكواكب الاخرى المساندة، كأنها توني بلير في دعمه هو شخصيا؟ هل قالوا له ان زحل كوكب يطلق شرارة الحروب من غير ان يستأذن مجلس أمن او يستشير المجرات الاخرى وأنه لا يقل عنه شأنا وتأثيرا؟

تربكني حواف الوقت، تبدو مثل اسلاك حدود شائكة، مثل نار أضرمت كي يقفز فوقها العابرون، شرط ان يحتفظوا بأقدام سليمة لم يمسها خدش.

وعندما يبدأ العد التنازلي لمنتصف الليلة الاخيرة من الشهر الأخير في السنة، تتلاطم المشاعر في داخلي: أبتهج أم احزن؟ وان اخترت الاولى، لأحسب نفسي من المتفائلين، لا أجد لبهجتي تفسيرا مقنعا، فأشعر بالغباء. وان حزنت على وقت، يتسرب مثل كومة رمل من الكفين، ارى نفسي مريضة المشاعر وسط اضواء الالعاب النارية وفرقعة زجاجات الشمبانيا في الساحات العامة والصالات المغلقة. على الاغلب اكتفي بأعصاب محايدة ترقب ما يفعله الآخرون، لا أغبط ولا أدين. لكني لا أتخلى عن حماسي وأنا أهنأ من حولي بـ«عام سعيد»، وأروح موهمة النفس انني سأطأ ارضا جديدة، وأدعو الله ان لا تدنسها اقدام الحروب وصفعات الكوارث.