الشعر بين أخي وابنتي

TT

تعودنا في المدرسة العربية للكتابة ـ أقصد تلك التي لها بعض المصداقية ـ ألا نخلط الخاص بالعام، وان نقلل قدر الامكان من ضمائر الأنا، وكثيرا ما قال قراء كرام برسائلهم وملاحظاتهم الشفاهية: «نحن لا نعرف عنك شيئا في حين نعرف مع من تغدى أو تعشى، أو أفطر فلان، فأقول في نفسي: هذا أحسن لكم ولي، فما يحتاجه القارئ من الكاتب هو عصارتا القلب والعقل، وما تبقى من خصوصيات مسائل لا تقدم ولا تؤخر.

ورغم هذه الخلفيات الموغلة بالقدم والمؤدلجة نقديا باطار ان النص لا علاقة له بكاتبه بعد النشر سأكسر اليوم هذه القاعدة لأسباب ستعرفونها بعد ان نقرأ معاً هذه الرسالة من بريد خريف العام الذي ودعناه قبل أيام..

الأخ الدكتور/ محيي الدين اللاذقاني

لقد قرأت خبرا في عدد يوم الاربعاء 2002/10/2 وجاء فيه ان ابنتكم البكر عيوش حفظها الله لكم اصدرت ديوان شعر، ولكن ونقولها But باللغة الانجليزية.

ونحن أقصد أنا وامثالي (حشريون) وبالخليجي (ملاقيف) نريد ان نستوضح هل تحدث بينكما مساجلات ومعارك كلامية؟ بما انك غائص حتى آخر (شعرة) في رأسك في بحر الادب العربي تدريسا وكتابة وتحليلا وتوجيها باختصار انه موقف يدل على انك لم تفرض عليها رؤيتك للمجال الادبي الذي اختطته لنفسها. وفي الحقيقة انني اغبط الذين تخرجوا من بين يديك فما بال عيوش تهدر مثل هذه الفرصة التي لا تتكرر بأن تغرف من معين ابيها الواسع. ختاما نريد تعليقا شافياً ووافياً ومقنعاً كما نتمنى للاديبة الصاعدة النجاح سواء بالعربي أو الانجليزي.

ناصر محمد الحمود ـ السعودية

التصحيح الاول ان عيوش ليست ابنتي الكبرى بل الصغرى، ونطلق عليها مداعبة اسم «ذات الاجراس» تمييزا لها عن «الكوبرا ـ الكبرى» والكوبرا وذات الاجراس من اخطر انواع الافاعي. لكن لا تستعجل يا اخي ناصر وتفترض ان تجربتي مع بناتي تشبه تجربة الملك «لير» فلم يكن عندي مملكة لاقسمها بينهن، ومكتبتي متاحة للجميع، فإن كانت عيوش اقرب الى القسم الانجليزي منها، فهذا من طبيعة الامور لأن البيت مهما كان قويا في التربية فإن المدرسة تظل أقوى، وهي ولدت في لندن ووجدت الانجليزية اسهل واقرب، وشربت اولا من «التيمز» وليس من الفرات أو العاصي.

واذكر ان الشاعر سليمان العيسى اتصل بنا ذات يوم من اليمن، فردت عليه الصغرى، وهي ترطن ولما لم يفهم عليها ولم تفهم عليه اعطت السماعة لأمها وحين سأل بنت من هذه؟ وقالت: ابنتنا تخلى عن وقاره مضطرا وبدأ يؤنب ويتساءل: بنت شاعر عربي وتتحدث بعربية مكسرة..؟! ولم تدر الام الطيبة وهي مربية وكاتبة ايضا بماذا تجيب:

وهذا حين كانت في السابعة أو الثامنة أما اليوم فعربيتها ممتازة. لكن الانجليزية تظل اسهل واطوع لها في الكتابة، فهي قرأت في المدرسة شكسبير وليس المتنبي، ومعرفتها بالشعر الانجليزي حفظا ودراسة امتن وأقوى، وبما اننا فتحنا باب الذكريات اليوم وخلطنا الخاص بالعام اذكر ايضا ان الفنان نور الشريف زارنا في العاصمة البريطانية وهو من عشاق شكسبير ومثل عدة ادوار من مسرحياته، فلما بدأنا نتسامر على العشاء، وبدأ يقرأ بالعربية الادوار التي يحفظها استوقفته عيوش عدة مرات، وحددت المسرحية والمشهد والشخصية، واكملت النص بالانجليزية عن ظهر قلب فقد حفظت شكسبير لمحبتها بالادب كما يحفظ طلاب الكتاتيب عندنا ألفية ابن مالك والمعلقات.

وحين صدر ديوانها الاول بالانجليزية وهي في الرابعة عشرة من عمرها ادركت بغريزة الناقد انه حدث كبير. لكني خجلت ان اقدمها بنفسي خوفا من تجاوز تلك الخطوط الحمراء بين الخاص والعام، فكتب عنها الزميل احمد جودة على استحياء أولا، ثم جاء التقديم الحقيقي من اخي الذي لم تلده أمي عبد الله باجبير.

وقد قلدني هذا الكاتب الكبير نفسا وابداعا قلائد العقيان على مدار الايام، لكنه حين كتب عن ديوان ابنتي عالم من الاحلام «World of dreams» كان لوقع كلامه نكهة لا أنساها، وكنت وقتها في استانبول، فبحثت عن رقم عبد الله باجبير لأخبره عن تلك المشاعر التي يفترض ان تكون بديهية، وهي اننا نحب فلذات اكبادنا اكثر من انفسنا لكننا لا ندركها الا في امثال تلك اللحظات الخالصة من الغبطة بين ابنة مبدعة، وأخ نبيل القلب والقلم يأخذ على الدوام بيد الناشئة والمواهب، وذاك لعمري قمة المسؤولية والاريحية من كاتب بذاك الوزن والانتشار.

وبعد تقديم عبد الله باجبير لديوان عيوش بذلك الاسلوب الساحر الراقي صار لزاما عليّ ان اجيب عن اسئلة كثيرة يختلط فيها الخاص بالعام، والعربي بالانجليزي، وشكسبير بالمتنبي، وها انا كما سيرى الاخ ناصر الحمود صاحب الرسالة الرقيقة التي قدمتها كنموذج عن تلك الاسئلة افعل، واستطرد، وازيد.

وأقول ايضا ها انا ذا «آخر موضوعية» فابنتي من وجهة نظري يوم قرأت ما كتبه عنها باجبير في استانبول، كانت أشعر من شكسبير، واعلم بقواعد اللغة العربية من الكسائي والاخفش، وان شئت الجد فإني كنت اعرف انها ستصبح شاعرة منذ كانت في الثانية أو الثالثة من عمرها، فقد كنا ذات يوم على الشاطئ، وغابت الشمس خلف الغيوم، فعصبت واغتاظت وبكت مطالبة بعودة شمسها الدافئة، وحين حاولت امها ان تشرح لها قوانين الطبيعة والكون رفضت ذلك بكل عنجهية الشعراء وقالت: بابا يستطيع ان يفعل كل شيء وحين يأتي سأطلب منه ان يعيدها.

وعادت الشمس بمجرد وصولي وقبل ان تطلب عيوش ذلك، فالحمد لله الذي لم يفضحني امام مخيلة شاعرة عشقت الكتاب قبل اي شيء آخر، وبدأت مراودة المستحيل وهي طفلة تثغو، وتحبو وتلعب بالكتب «جعلكة» وتمزيقاً وعضاً ثم تصبح وهي في الرابعة عشرة من عمرها من مؤلفيها.