المغزى الفلسفي للاستنساخ

TT

في 23 فبراير ( شباط) 1997 اعلن البيولوجي الاسكتلندي (إيان ويلموت IAN WILMUT) انجاب نعجة بدون أب واحد ولكن بثلاث أمهات بواسطة طريقة انقلابية في التخلق، ليس عن الطريق الجنسي الطبيعي المعروف في الطبيعة، بل بالطريق العذري الجسدي، مقلداً الطبيعة التي تنتج أشجاراً كاملة من غرسات جسدية منتزعة منها فظهرت إلى الوجود نعجة بحراسة أمنية مشددة اكثر من ديكتاتوريي الدول الاستبدادية، وهي تحدق بفضول في عدسات المصورين بعد ان تحولت الى نجم عالمي مشهور يحمل اسم (دوللي DOLLY) تيمناً باسم مغنية مشهورة. مع واقعة الاستنساخ الجسدي هذه تأكدت عدة أمور: امكانية مجيء أي كائن الى العالم بدون الطريقة الجنسية في التكاثر. وتأكد ثانياً أن التطمينات التي يقدمها سحرة العالم البيولوجي بأن يدهم لن تمتد الى الانسان لا تخرج عن كونها تخفيفاً لهول الصدمة عند العوام وصرف النظر عن عمليات سرية تتم بالخفاء، كما جاء ذلك في فيلم (الانسان الخفي Hollow Man). ويؤكد هذا ان العلم يمشي بخطى تقدمية ولا يعرف التوقف او المستحيل وبناظم اخلاقي ذاتي. ونكتشف بسخرية ان المستحيل هي تصوراتنا الذاتية. والامر الاكيد الثالث هو ان رحلة الاستنساخ الانساني كانت مسألة وقت لا اكثر. ولن تزيد عن الضجة التي حدثت بولادة (لويزا براون LOUISE BROWN) عام 1987. وهذا الذي اعلن مع مطلع عام 2003 بمجيء أول طفل مستنسخ في العالم بالطريقة الجسدية.

مع هذا فان هذه التطورات الجديدة لا يمكن استيعابها بدون التشبع بالوعي التاريخي، فقصة التاريخ تحمل في طياتها مسارات ومنعرجات التطور الانساني، وتنفع في فهم قوانين التاريخ أكثر من صيحاتنا الاخلاقية. والثورة البيولوجية الحديثة تبدأ من القرن الثامن عشر حينما حاول (اوسكار هيرتفيج OSKAR HERTWIG) عام 1875 تأمل ظاهرة الخلق والتكاثر عند قنفذ البحر في تطبيق عملي للآية (فأنظروا كيف بدأ الخلق). وتابعه النمساوي شينك ( SCHENK L) عام 1878 في القيام بتجربة لقاح حيوانات منوية لخنزير البحر ثم استنباتها على غشاء مخاطي رحمي. واستطاع كل من روك ومينكين (J.ROCK MF.MENKIN) عام 1944استنبات كائنات خارج الرحم في أنابيب الاختبار. وأمكن تبريد الحيوانات المنوية وإعادة تلقيحها عند الأبقار في عام 1952 فولدت عجولاً سليمة. ومنها نشأت فكرة بنك الحيوانات المنوية. وأمكن بعدها للدكتور (جيردون) أول استنساخ جسدي عند الضفادع باعتبار أن بويضة التكاثر عندها أكبر بـ75 مرة من بويضة أي كائن آخر ونجح في 11 محاولة من خلال 707 تجارب بنسبة نجاح 6.1 في المائة وكانت ثورة بيولوجية سبقت ما فعله (إيان ويلموت) لأنها دشنت أول عملية (استنساخ جسدي) ناجحة. وبذلك مهدت الطريق لكل عملية الاستنساخ الجسدي اللاحق بما فيها التي حدثت عند الانسان كما أعلن في أمريكا مع مطلع 2003. وحيث تم الامساك بالقانون فإن تكراره أهون.

وفي عام 1953 تم تلقيح أول امرأة بحيوانات منوية جلبت من براد (بنك الحيوانات المنوية) وأنتجت مولوداً غير ذي عوج. وفي عام 1959 تمت ولادة أول أرنب خارج الرحم نهائياً في أنابيب الاختبار. وتم تبريد أجنة الفئران عام 1972 وليس الخلايا فقط. وصدم العالم عام 1978 عندما سمع بولادة أول طفلة خارج الرحم نهائياً في أنابيب الاختبار وأخذت اسم لويزا براون (LOUISE BROWN) وقد اصبحت اما منذ فترة قريبة. وفي عام 1983 دشن عهد (البيوض المستأجرة) حيث حملت امرأة بتلقيح مني زوجها ببويضة امرأة غريبة تم بعدها زرعت الخلية الملقحة في رحمها فولدت غلاماً زكيا. وعام 1984 شهدت استراليا استدعاء جنين مبرد وتمت ولادة الطفلة (زوي ZOE). وفي عام 1986 حدثت واقعة مثيرة ذات ذيول قضائية. فبعد أن أجّرت رحمها وحملت الأمريكية (ماري بيث وايتهيد MARY BETH WHITEHEAD) من بيضة ملقحة لسيدة أخرى وتمت الولادة رفضت إعادة الطفلة إلى الأم التي استأجرت رحم السيدة وايتهيد فانطبقت عليهم قصة الجنين الذي يجب شطره بين الأمين; بين التي منحت البيضة الملقحة والتي حملته في رحمها وهنا على وهن. وفي عام 1986 تم استنساخ العجول والخرفان بطريقة الاستنساخ (الجنسي) فقامت سبعة عجول توائم تدب على الأرض بنسخ متشابهة لا شية فيها تسر الناظرين. وفي عام 1992 حصلت ولادة تشبه المعجزة حيث حملت الايطالية (روزانا ديلا كورتي (ROSSANA DELLA CORTE) بوضع بويضة ملقحة في رحمها من بويضة ملقحة لسيدة مجهولة بمني زوجها، وهي العقيم.

ومع عام 1993صعق العالم لخبر جيري هول عندما اجرى تجربة الاستنساخ على البشر (جنسيا) ونجح فيه، ولكنه أوقف متابعة العملية لاعتبارات أخلاقية وقانونية. وفي عام 1993 حصلت واقعة طريفة عندما حملت سيدة أمريكية ببويضة ملقحة في أنبوب الاختبار فقامت (الحماة) بحب غير معهود لـ(الكنة) فحملت حفيدها في رحمها فولدت غلاما سويا. وتطالب اليوم عبر الانترنت فتاتان عقيمان بحمل من هذا النوع بانجاب أطفال من نوع (بابا) الذي شغفن بحبه والاعجاب به. فالبنت تستطيع استنساخ أمها، والجدة حفيدها، والولد جده الرابع، في رحلة خيارات يدور منها الرأس. والعلم يفكر الآن بالحفاظ على العبقرية الانسانية وأي شخصية مهمة يمكن استنباتها بما يشبه البعث البيولوجي وخلية واحدة من مومياء رمسيس يمكن ان تستنسخه بفارق انه سيأتي ليس طاغية بل ديموقراطيا متواضعا ما لم يولد في العالم العربي. ومع الانتصار الجديد سوف يحصل أفضل بكثير مما تخيله جوليان هكسلي عام 1923، وتوقع حدوثه بعد 600 سنة. سوف يفتح الطريق الى فصل الجنس عن الانجاب فتتخلص المرأة من كل الحمل واشكالياته. ويتم الحصول على ذرية منتقاة بعناية بفحص الخلية الملقحة لمعرفة كامل تركيب المادة الوراثية. ثم الدخول من خلال جراحة الجينات لازالة الأمراض الخلقية مثل هبل المنغولية والزهايمر والاستعداد لاحتشاء القلب وحصيات المرارة والفتق فيخرج انساناً سويا. وما ذلك على الله بعزيز. سيتم التحكم في الجنس والتخلص من جينات الاجرام والحقد والاحباط وداء باركنسون والجنون، وربما التخلص من الذكور كلية صانعي الحروب وسافكي الدم، فالأنثى هي الموديل المتقدم للجنس البشري. سيتم الامساك بعنق السرطان طالما يحوي معه سر الديمومة والاستمرارية في الحياة والوصول الى سر تجدد الخلايا والاقتراب من سر امتداد عمر نوح الى ألف سنة الا خمسين عاما. وسيتم زراعة أعضاء جديدة حسب الطلب من كبد خارت عزيمته، وكلية تلفظ أنفاسها الأخيرة، وقلب مرتخٍ، وفشل بنكرياس اغرق الجسم بطوفان سكري، والمحافظة على سلالات راقية رشيقة للحصان العربي من نوع (رئيفة) التي بيعت بحوالي مليون ريال من خلال استنساخ أعداد بما تشتهيه قلوب محبي السباق.

لكن السؤال الخطير هو هل هناك من ناظم لحركة العلم وهل يمكن تطويقه؟

الشيء الاكيد ان العلم لن يتوقف، فهو لا يعرف الحدود، وهو قاهر الجغرافيا ومخترق المراقبة الأمنية، والساخر من خرافة الحدود الآمنة، والضاحك من العسكريين بأشد من الثكلى، لأنه يحول كل انجازاتهم و(صرعاتهم) في النهاية الى صالح الجنس البشري، كما حصل مع تحويل الصواريخ النووية الى غمامة الدشوش الزاحفة فوق سطوح المنازل بأشد من ضباب الصباح، والانترنيت العسكري الى شارع المعلومات وباني الصداقات عبر القارات ومانح الحريات بأنفاس إلكترونية. فسبحان من اغنى السطور عن الحضور. لا حدود للبحث العلمي ولا يمكن محاصرته فطبيعته تقدمية، ولا خوف من التفكير لأن اعظم ما في الانسان جهاز التفكير، ولا حاجة لاعلان الوصاية الاخلاقية على العلم فهو يمشي بقوته الاخلاقية الذاتية، فيحور ويحرر الانسان والعالم.

في عام 249 ميلادي هاج الرعاع على ابنة عضو بارز في المجلس البلدي في الاسكندرية هي أبوللونيا (Apollonia) بدعوى انها تحمل افكاراً مستحيلة وتبشر بعالم جديد، فاقتادوها الى خارج المدينة ثم بدأوا بتحطيم اسنانها واشعلوا النار في الحطب وهددوها بالتبرؤ من آرائها والا كان مصيرها النار فأراحتهم وألقت بنفسها في النار. وبعد مرور قرون اعتبرتها الكنيسة قديسة ينادى باسمها عند وجع الاسنان. وهكذا يتقدم التاريخ على جسر من المعاناة فوق نهر من الدموع.