التلاعب الأمريكي بالحرب

TT

يصعب الجزم بأن الحرب ضد العراق واقعة في أية لحظة بعد يوم 27 يناير عام 2003 الذي يقدم فيه المفتشون الدوليون تقريرهم الى الأمم المتحدة، بعد أن اخذ كثير من الأمريكيين يتحدثون عن فرص الحل السلمي مع العراق، ويصعب الجزم ايضا بأن التفاوض سيتم بين بغداد وواشنطون في ظل نذر الحرب المتصاعدة من قبل الطرفين الامريكي والعراقي.

بدأ الناس يتساءلون في كل مكان بالأرض عن حرب واقعة أم سلام منتظر، بعد ان انحنت امريكا لكوريا الشمالية التي استطاع رئيسها كيم جونج ايل فرض ارادته الرامية الى الاحتفاظ باسلحته النووية، واصبحت واشنطون في وضع يفرض عليها التعامل مع بغداد بنفس طرق تعاملها مع بيونج يانج، لتحفظ ماء وجهها أمام العالم، الذي يدينها بنهج سياسة دولية تكيل بمكيالين بتعاملها مرة بالطرق السلمية مع كوريا الشمالية بعد ان قبلت واشنطون وساطة سيوول عاصمة كوريا الجنوبية التي ذهبت الى تقديم البترول والمساعدات الاقتصادية والضمان الامني لبيونج يانج في مقابل انهاء برنامجها النووي، واصرار امريكا مرة اخرى على الخروج الى الحرب ضد العراق رافضة تماماً كل الوساطة العربية التي تواصل محاولاتها باقناع واشنطون بامكانية تطهير العراق من اسلحة الدمار الشامل النووية وغير النووية بالطرق السلمية.

وظفت الادارة الامريكية ويليام رازبري الكاتب المعروف بتأييده ضرب العراق ليبرر سياستها الدولية ذات المواقف المزدوجة، الذي قال إن المشكلة مع العراق لا تحل بالكشف عن اسلحته للدمار الشامل بالتقرير المقدم منه، او الوصول اليها من قبل المفتشين الدوليين او قيامه بتدميرها، وانما المشكلة مع العراق وجود صدام حسين على قمة السلطة في بغداد وهدف امريكا من الحرب الاطاحة به والقضاء على نظامه الديكتاتوري القائم، ويدحض قول الكاتب ويليام رازبري موقف واشنطون نفسها بتراجعها في مرحلة الصراع داخل مجلس الامن على قرار الحرب ضد العراق، عن الاطاحة بصدام حسين بضغط دولي استند الى احكام القانون الدولي العام التي تحرم في كلياتها وجزئياتها التدخل في شؤون الدول الداخلية والاطاحة بانظمة الحكم القائمة بها مما يجعل من قولها على لسان كاتبها ويليام رازبري بأن هدفها من الحرب الاطاحة بصدام حسين وحكومته فيه خروج على الارادة الدولية التي التزمت بها واشنطون في مرحلة من مراحل المناداة بالحرب ضد العراق.

مشكلة امريكا الحقيقية مع العراق انها تعرف يقينا بأن الحكومة العراقية تمتلك اسلحة الدمار الشامل النووي وغير النووي لأنها كلفت في حقبة الثمانينات من القرن الماضي رونالد رامسفيلد باعطاء العراق هذه النوعية من الاسلحة في مرحلة حربه ضد ايران، والدليل على صدق ما نقول ان مسؤولين في مجلس الامن القومي اعلنوا ترددهم في تقديم المعلومات عن اسلحة الدمار الشامل العراقية ومواقعها الى المفتشين الدوليين، واكدوا بأنهم يحتفظون بهذه المعلومات عن اسلحة العراق الكيماوية والبيولوجية والنووية لتقديمها في الوقت المناسب لمجلس الأمن لاستخدام هذه المعلومات في تبرير قرار الحرب من قبل مجلس الأمن بغض النظر عن تناقض المعلومات بين ما تعرفه امريكا عن اسلحة الدمار الشامل العراقية وبين ما يمكن ان يتوصل اليه المفتشون الدوليون عنها، فإن واشنطون اعدت العدة الى الخروج للحرب في العراق سواء ثبت أو لم يثبت ان لديه اسلحة الدمار الشامل.

هذا الموقف الامريكي الراغب في الخروج الى الحرب منفرداً او مع حلفائه ضد العراق قد جعل الاوضاع الدولية تتصاعد خلال الايام القليلة الماضية في اتجاه الحرب الذي ظهرت معالمه بتكثيف تهديدات امريكا وزيادة حشودها العسكرية الذي قابله تصعيد عراقي بدعوة الشعب الى التدريب ليقوم بادوار المقاومة الشعبية للقوات الامريكية في شوارع كل المدن العراقية، وهذا ما حذرت منه الموساد الاسرائيلية من خلال رجالها الذين تمكنوا من التسلل داخل العراق بما فيه العاصمة العراقية بغداد.. واصبحنا اليوم امام مباراة قتالية بين واشنطون بقواتها وبين بغداد بشعبها مما يزيد من نذر الحرب ويغلق ابواب المفاوضات السلمية بينهما التي اصبحت مجرد أمل عند المنادين باللجوء الى الطرق السلمية لحل ازمة السلاح العراقي.

يفسر الكثيرون من الامريكيين المنادين بالسلام عند التعامل مع العراق، اصرار امريكا على الحرب برغبتها في التسفيه المسبق لقرارات المفتشين الدوليين بخلو العراق من اسلحة الدمار الشامل استناداً الى البوادر التي ظهرت من اقوال المفتشين الدوليين ووصلت الى البيت الأبيض الذي اعلن بأن صدام حسين وحكومته استطاعوا خداع المفتشين الدوليين بالطاعة العراقية المصطنعة للارادة الدولية التي جسدها قرار مجلس الأمن 1441 الصادر في 9 نوفمبر عام 2002 ويخشى من هذا الخداع ان يأتي التقرير النهائي للمفتشين الدوليين في موعده المقرر كحد اقصى يوم 27 يناير عام 2003 ليؤكد خلو العراق من هذه الاسلحة ذات الدمار الشامل فيفقد قرار الحرب الامريكية شرعيته ويتعذر او يتعثر قرار مجلس الامن بالموافقة على ضرب العراق.

يبدو لنا ان اعلان مجلس الامن القومي الامريكي بأنه يعرف حقيقة اوضاع اسلحة الدمار الشامل في العراق اكثر من المفتشين الدوليين الذين يبحثون عنها، وقراره بعدم ابلاغهم عن مواقعها حتى لا تلجأ بغداد الى تغيير هذه المواقع فيه تطاول امريكي واضح على التفكير الانساني لأن مجرد ذكر مجلس الأمن القومي الأمريكي بمعرفة مواقع اسلحة الدمار الشامل في العراق سيدفع بغداد إلى تغيير هذه المواقع سواء ابلغ أو لم يبلغ المفتشين الدوليين عنها، والحقيقة ان مجلس الأمن القومي الامريكي يخشى من ابلاغ المفتشين الدوليين عن هذه المواقع فيذهبون اليها ولا يجدون بها شيئا من اسلحة الدمار الشامل، فتضيع عليهم حجة استخدام هذه المعرفة الصائبة او الخاطئة عن مواقع اسلحة الدمار الشامل في اقناع مجلس الامن بضرب العراق، ويتعذر عليهم الحصول على موافقة الكونجرس بالخروج لمحاربة العراق.

القضية بهذا الفهم للموقف الامريكي الذي يرى حتمية الخروج الى الحرب في العراق الذي بدوره يعد الى حرب الشوارع، يجب عدم معالجتها بالحوار بين المنادين بالمواجهة بالتفاوض، وبين المطالبين بالمجابهة بالقتال، خصوصا ان احتمالات الحرب اكبر بكثير من احتمالات التفاوض في معالجة وضع اسلحة الدمار الشامل في العراق، وأخطار هذه الحرب لا تنحصر في داخل العراق وانما تمتد لتشمل كل اقليم الشرق الأوسط بكل الادران المترتبة منها على الامن الاقليمي والسلام العالمي، مما يدعونا الى المطالبة بالحاح باتخاذ موقف دولي يحدد مسار العلاقة بين الارادة الدولية وبين هذا الاقليم تستند في كلياتها وجزئياتها الى العدالة التي تحافظ للأقليم على امنه، وللسلام العالمي على استقراره وتمنع التلاعب الامريكي الذي يستهدف الحرب.