هل يندحر صدام كنتيجة للحرب النفسية؟

TT

نحن الآن، وفي ما يتعلق بالازمة العراقية، امام مجموعة من الاحتمالات الحاسمة. بعضها قد يكون جديداً، والبعض الآخر نادراً او حتى فريداً. وذلك حسب اسلوب حل وما ستؤول اليه نتائج الأزمة، فربما تتجدد دماء الأمم المتحدة مثلاً، او تهمش تماماً. وقد ينشط الدور الاقليمي على حساب التفرد الأميركي، او يحدث العكس. وقد تنتقل واشنطن بعد العراق الى فرض اسلوبها المعيشي والسياسي على دول المنطقة، او تتراجع عنها.

الاحتمال الذي اذا تحقق سيكون نادراً في التاريخ، وليس فريداً، هو ان يندحر نظام الرئيس صدام حسين عن بغداد كنتيجة مباشرة للحرب النفسية الدائرة رحاها بوتائر متصاعدة، وبدون اللجوء الى استعمال الاسلحة والمعدات العسكرية وتكبد خسائر بشرية. والحرب النفسية القائمة هي خليط من تطبيقات الحرب الاعلامية المنظمة، وعلم حرب الاشاعات، واعتماد هذا الخليط على الدعم العسكري التقليدي.

حتى الآن كانت الحرب النفسية بمكوناتها المتعددة، تستخدم كأداة مساعدة للأدوات الحربية في حسم المعارك. احيانا تمهد الحرب النفسية وتبرر لشن الحرب، واحياناً اخرى تستعمل اثناء المعارك لإضعاف روح ومعنويات الخصم. لكن الحرب النفسية، خصوصاً في العصر الحديث، نادراً جداً ما حسمت المعركة لوحدها على غرار ما قد نراه قريباً في العراق. احد الامثلة الحديثة على مساعدة الحرب النفسية للمعارك الحربية هو ما يعرفه كل العرب عما حدث في فلسطين قبيل النكبة. آنذاك استعملت المنظمات الصهيونية اساليب الحرب النفسية بشكل مخطط سلفاً، واستغلت العمليات الارهابية، ونتائج بعض المعارك مع الجيوش العربية، والكثير من الاعلام المضلل والاشاعات، لترويع المدنيين ودفعهم الى مغادرة بيوتهم.

بعد اكثر من نصف قرن على مثال فلسطين، فان ما يحدث في العراق مختلف تماماً، اذ يتم بأسلوب آخر وفي مناخات سياسية مغايرة ويعمها الانفتاح المعلوماتي السريع. باختصار، حتى يشن الرئيس بوش حرباً على العراق فانه بحاجة لكسب الرأي العام الأميركي والدولي، والعربي قدر الامكان. ومهما كانت اهداف الادارة من الحرب، فانها حتماً لا تريد نقمة شعبية أميركية تسقطها في الانتخابات القادمة، او قبلها. هكذا لا بد من اقناع الاغلبية العظمى من الرأي العام المحلي والعالمي، وتسهيل مشاركة حكومات اخرى وضمان اصدار قرارات من مجلس الأمن. سلاح الاقناع الفعال هو الحرب النفسية، وتحديداً عبر الإعلام والاشاعة، الى جانب الاقناع بأساليب الدبلوماسية ولوي الاذرع للحكومات الاخرى.

أي اعلان للحرب او التهديد بها يحرك الجماهير في كل مكان لاعلان معارضتها، لكن كلما طالت فترة التهديد، فان الهدؤ والروتينية تدب في اوساط الجمهور المعارض. كما ان استمرار العمل الدبلوماسي والتفتيش الدولي واطلاق تصريحات ان الحرب غير حتمية، يسهل نقل القوات ونشرها بدون اعتراض جماهيري، طالما ظُن بوجود امل في السلام. في هذه الاثناء قد ُيقدم الطرف الآخر (صدام) في هذه الحالة مبررات للهجوم، وقد يتخوف وينهار سلفاً، وقد تحدث تطورات داخلية تغني عن المعارك العسكرية. بالطبع لا يمكن نجاح الحرب النفسية بدون التلويح بالأسلحة وإفهام الخصم انها سوف تستعمل. ولهذا يتوالى ارسال القوات للمنطقة وتتم الاستعدادات وكأن الحرب حتمية. كل اساليب الحرب النفسية والتهديد اللفظي لا تعطي ثمارها بدون تحريك القوات. كما ان نوعية القوات تشير لتحضير بالاجتياح والقبض على الرئيس وليس القصف الجوي فقط.

عند هذا المستوى من الحرب النفسية، تصبح القضية اشبه بالمقامرة. من الطبيعي ان الرئيس الأميركي سيفرك يديه فرحاً اذا ازاح الرئيس العراقي عن الحكم بدون قتال، فنتيجة كهذه تضمن لبوش فترة حكم ثانية، ومنجزات اخرى لسنا بصددها الآن. لكن وبالنسبة لصدام لا توجد أي ضمانة لأن يتوقف بوش عند حدود الحرب النفسية. في الواقع، وكما نرى بوضوح الآن، فان التفاعلات ليست في صالح الرئيس العراقي، اذ صعدت واشنطن من حربها النفسية المزدوجة عبر نشر اشاعات حول تفكير صدام في اللجوء الى خارج العراق، ثم روجت اعلامياً، وبشكل مكثف هذا الاسبوع، قبولها لمنح صدام حرية المغادرة وضمان عدم ملاحقته، بينما الحكومة البريطانية غير متأكدة من انها ستوافق على منح صدام ضمانات بعدم المحاكمة!

هذا النهج يخدم واشنطن بشكل مزدوج، فهو من جهة يضعضع معنويات الرئيس العراقي، ويقلل من قيمته، ويشجع الشعب العراقي على تمني تغيير النظام كثمن لمنع الحرب وانهاء الحصار، ويهدئ من مخاوف الجمهور العربي والعالمي المتعاطف مع الشعب العراقي، وليس مع نظام بغداد، ومن جهة اخرى يظهر الادارة الأميركية كمطالبة للسلام، ومستعدة للتراجع عن استعمال القوة حتى اللحظة الاخيرة. بمعنى آخر، اذا نجحت الحرب النفسية في هزيمة صدام فهذا خير، واذا لم تنجح في ذلك، فإنها حتماً تمهد كل المعنيين لتقبل الحسم القتالي، وفي ذلك تخفيف عن بوش لأي نتائج سلبية محتملة للمعارك.

ما يخدم النهج الأميركي هنا، هو تخلف نهج النظام العراقي وعدم تعاطف المنطقة معه. فبعد اكثر من عقد على حرب تحرير الكويت، لم يغير النظام في بغداد أي شيء في النهج والنظام السياسي سواء مع الجيران او في الداخل. هكذا يحق التساؤل: ماذا لو زالت مخاطر الحرب الآن وبقي صدام في مكانه؟ هل سيغير نهجه ونظامة ومتى؟ ام سيبقى يناطح أميركا ويجوع الشعب العراقي، والى متى؟

في خضم الحرب النفسية المدعمة بنشر القوات، وبالاعلام الصارخ والاشاعات العالية المستوى والسهلة الإخصاب في المنطقة، لا نرى ونسمع سوى خطب باهتة للرئيس صدام لا ُيفهم ما يقوله الا بمطالعة متأنية ومتكررة لفقراتها، ولا توجد لديه أية عناصر لحرب نفسية مضادة، ناهيك من الاستعداد العسكري. لا نتلمس مثلاً محاولات لكسب الرأي العام بالقول ان العراق لن يضرب أية اهداف خارج حدوده! تصريح كهذا يمكنه حرمان اسرائيل من تحصيل الدعم والقرض الباهظ الذي تحاول قبضه سلفاً من واشنطن كثمن لسكوتها عن الرد اذا ضربها صدام. ويمكن بكلام واضح من هذا القبيل افشال مخططات الدول الغربية المتكررة التي تحاول اخافه جمهورها وكسبه للحرب بترويج دعايات خطر الإرهاب البيولوجي والكيماوي العراقي.

عدم اللجوء لهذا الاسلوب لا يعني طبعاً ان النظام العراقي سيضرب اسرائيل ويرهب شوارع الغرب، ولو كان الامر كذلك لكان من الافضل التهديد به لإفهام الجميع ما ستؤول اليه الامور اذا حدث الهجوم على العراق. علينا هنا ملاحظة الفارق بين العراق وكوريا الشمالية. عندما شعرت الاخيرة باحتمالات خطر أميركي اعلنت التمرد، فانسحبت من معاهدات دولية حتى لا تتهم بالمخالفة، ثم اعتبرت تصريحات أميركا بشأن الحصار بمثابة اعلان حرب، وتلت ذلك بتهديد بتدمير مدن أميركية كبرى... وهنا اكتشف الأميركيون ما يحدق بهم من دولة تملك اسلحة تدمير شامل وصواريخ ناقله لها ايضاً، فركضوا سياسياً ودبلوماسياً امام كوريا وأصبحوا كالبدوي الذي قال «خلصني وخذ عبايتي».

على الارجح ان العراق لا يملك اسلحة تدمير شامل قابلة للاستعمال في معارك عسكرية او عمليات ارهابية. اذا صدق هذا الاحتمال وكان معروفاً للأميركيين، فاننا على عتبة معايشة الحدث النادر بانتصار الحرب النفسية، ليس فقط في التمهيد الناجح لمعركة ضخمة، بل ربما حسمها من دون عمليات قتال تذكر. لا يمكن التأكيد ان الحرب ستحدث ام لا، لكن المؤكد ان الحشود الأميركية ـ البريطانية لن تغادر المنطقة طالما بقي الرئيس صدام في بغداد.