كفالة حرية الدفاع والنظام الجزائي السعودي

TT

تناقلت وكالات الأنباء خبر زيارة وفد من منظمة حقوق الإنسان «هيومن رايتس ووتش» للسعودية. وبحسب الأخبار المتناثر في الصحف، فقد تمكن هذا الوفد من الوقوف على التنظيم القضائي في السعودية وآلية العمل في هذا المجال. العجيب في الأمر أنه بحسب موقع هذه المنظمة يظهر أن الصورة عن التنظيم القضائي في السعودية كانت غير واضحة بجلاء مما جعل ذلك مرتعاً خصباً لمن أراد إبراز المساوئ على حساب المحاسن، وبلا شك أن العقول تبقى أسيرة لما يودع فيها أولاً وتكون هذه المعلومات موجة لنشاط مثل هذه المنظمات رغم هشاشة الأساس الذي تقوم عليه، ووقائع التاريخ تؤكد أن للغياب سحراً عجيباً وقدرة فائقة في تقبيح الحسن وتعظيم التافه وتصغير الكبير، ولا ريب في أن قلة التواصل مع مثل هذه المنظمات وإطلاعهم عن كثب على الواقع الصحيح سهل كثيراً في استمرار التحامل على ما تبذله البلاد في مجال حماية الحقوق والحريات.

تكامل الجهود وتنظيمها واحترام جهد الفرد وحفظ حقه وتقديره والذود عن حريته وحمايتها بمثابة المفتاح للنهوض بالمجتمعات، من أجل ذلك جاءت القوانين بالنص على حماية حقوق وحريات الناس خاصة في المجال الجزائي، كما نص على ذلك النظام الأساسي للحكم في السعودية.

الحقيقة التي لا مفر منها أن تنظيم حماية الحريات والحقوق شئنا أم أبينا تمر بمراحل أشبه ما تكون بمراحل الحمل تدخل في بطء تنظيمها ـ وإن كانت موجودة واقعاً ـ أسباب متعددة منها طبيعة المجتمع وقلة عدد سكانه، فعلى سبيل المثال فإن سرية الإجراءات الجزائية في السعودية كانت السبب الذي دائما ما يردده الموظف ـ سواء كان ضابط شرطة أو محققا أو قاضيا ـ في عدم إطلاع أي أحد عليها خشيةً من لماذا؟ وربما كان في اعتقاد الموظف آنذاك أن ما حوته الأنظمة من ضمانات التقاضي على عدد من الدرجات وعلانية الجلسة القضائية كافية في ذلك.

حالات غريبة بل مفعمة في الغرابة أن تتحول كثير من الإجراءات الجزائية والتعاميم إلى إجراءات سرية لا يحسن إظهارها وإعلانها، ومن العجيب أن هذه التعليمات ليس فيها من السرية شيء بل هي إظهار لجانب التطبيق الواقعي للفقه الإسلامي المقارن.

الواقع أنه أسيء فهم كلمة «السرية» من لدن بعض العاملين في مجال العدالة الجنائية الذين لا يقدرون مدى خطورة استعمال هذا المصطلح في غير مداه. أيضاً السرية استخدمت فيما مضى كجزء من الرد على من ينادي بحتمية وجود المحامي مع المتهم في قضايا الحق العام.

ومما لا شك فيه أن هذا التوجه كان سيؤثر وربما أثر فعلاً على التطور الفقهي وإيصاله للعالم كواقع مطبق.

من الطبيعي أن كل عملية إصلاح تمر بمراحل متعددة وعقبات كثيرة يأتي في مقدمتها الإغراق في الثناء والاقتصار على ذكر المحاسن مع نفي النقائص وادعاء الكمال وتوهم الصواب من قِبل المستفيدين الخائفين على مصالحهم نتيجة الإصلاح.

كان لا بد للنظرة الواقعية أن تسلط على الواقع القانوني لإدراك الثغرات ومن ثم إصلاحها ليكتمل نهوضنا بنهوضها. كان هذا جزءاً من مرحلة تطور الأنظمة في السعودية. ولأن ترسب مثل هذا الفكر لا يخدم العدالة ولا تطور الفقه القضائي السعودي المستمد من الشريعة الإسلامية كان لا بد من إيجاد النصوص القانونية التي تلغي مثل هذا الفكر بدءاً من نسف ما ترسب بشأن سرية الإجراءات الجزائية لتعارضها مع أقل حقوق البشر ومروراً بالنص على حق المتهم في الاستعانة بمدافع عنه، وانتهاءً بالتأكيد على وجوب نشر الأحكام القضائية.

كانت مهنة المحاماة لا تحظى بتقنيين سوى ما تناثر من تعليمات للوكلاء وكثيراً ما تردد أن المحامي إذا دخل في قضية أفسدها، والواقع أن مهنة المحاماة لم تحظ على مر الفقه الإسلامي بأهمية، فابن عابدين ـ على سبيل المثال ـ في حاشيته على البحر يقول «والوكلاء على باب القضاء لا تسمع شهادتهم لأنهم ساعون في إبطال حق المستحق وهم فساق والله تعالى أعلم»، ولأن الشريعة الإسلامية بجميع مصادرها قد أكدت على حق الإنسان في الحياة وعلى حماية حقوقه بل أحاطته ومسكنه ومركبه وحياته الخاصة بالكثير من الضمانات وهو ما جاء النظام الأساسي للحكم بالنص عليه الأمر الذي لزم معه غلغلة ما ترسب في الأذهان حول المساس بهذه الحقوق والنص على ما دعت إليه الشريعة السمحة فكان صدور «قانون» المحاماة ليكون لبنة أساسية في الذود عن الحريات والحقوق. وصدر هذا النظام بالمرسوم الملكي رقم م/38 وتاريخ 28/7/1422هـ فدخلت كلمة المحامي القاموس القضائي السعودي وبدأ المحامون مزاولة أعمالهم باعتبارهم محامين ليسوا وكلاء أو مستشارين. وجاء النص على حماية هذه المهنة ومن يزاولها فنجد المادة الثالثة عشرة من نظام المحاماة تنص على أن للمحامي أن يسلك الطريق التي يراها ناجحة في الدفاع عن موكله ولا تجوز مساءلته عما يورده في مرافعته كتابياً أو مشافهة مما يستلزمه حق الدفاع، غير أن اللائحة التنفيذية لهذه المادة شابها شيء من الغموض المتأثر بما ذكرنا، فنصت هذه اللائحة على أن عدم المساءلة المشار إليها في هذه المادة لا يحول دون رفع الدعوى الخاصة أو العامة، ولم توضح اللائحة التنفيذية عن أي شيء تكون المساءلة العامة وربما يظهر للوهلة الأولى أن هذه المادة التنفيذية هدم للمادة النظامية ولكن بحكم القانون فإن المادة النظامية أقوى من المادة التنفيذية. وفي القوانين المقارنة نجد أن المساءلة التي يمكن أن ترد على المحامي إذا صدر منه شيء هي التي لا تتعلق بالدعوى التي يترافع عنها، فهنا يمكن أن يُسأل وربما أن هذا هو المراد في هذه المادة التنفيذية لنظام المحاماة السعودي، إذ ان ضمان حرية الدفاع هدف سام رعاه النظام.

وفي هذا الإطار حمى قانون المحاماة السعودي المحامي ونص على وجوب تسهيل مهامه، فنصت المادة التاسعة عشرة على أنه على المحاكم وديوان المظالم واللجان المشار إليها في المادة الأولى من هذا النظام والدوائر الرسمية وسلطات التحقيق أن تقدم للمحامي التسهيلات التي يقتضيها القيام بواجبه، وأن تمكنه من الاطلاع على الأوراق وحضور التحقيق، ولا يجوز رفض طلباته دون مسوغ مشروع. وفي نظام الإجراءات الجزائية جاء النص واضحا وصريحا على حق المتهم بالاستعانة بمدافع عنه كما في المادة الرابعة والمادة الرابعة والستين وبات من المقبول جداً أن تشاهد المحامي حاضراً مع المتهم في قضايا الحق العام ويدافع عن موكله مرتكب الجريمة لأن الهدف في واقع الأمر ليس تحقيق البراءة للمجرمين والمفسدين بل هو معاونة القضاء على تحقيق العدالة. وأقل ما يمكن أن يقال ان المحامي يسعى لتحديد نطاق المساءلة الجنائية لموكله وإبراز الظروف المخففة أو المعفية من العقاب.. وحينما كان حضور المحامي في وقت مضى لإجراءات التحقيق ضرباً من الحديث بالمستحيل نجد أن نظام الإجراءات الجزائية منع التحقيق في غيبة المتهم أو محاميه كما جاء ذلك في نص المادة .69 وإذا كانت طبيعة بعض القضايا تقتضي عزل المتهم عن غيره لمدة محددة فإن ذلك لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يخل بحق المتهم في الاتصال بمحاميه في حين كان ذلك غير متيسر بوضوح في زمن ما قبل نظام الإجراءات الجزائية.

الحقيقة أن صدور نظام الإجراءات الجزائية ونظام المحاماة والنص صراحة على هذه الحقوق وغيرها لا يمكن القول عنه إلا انه ثورة في عالم التنظيم بالسعودية.

* مستشار قانوني