العراق: ويلي منه.. وويلي عليه..

TT

في أمسية قاهرية على هامش ندوة المنظمة العربية لحقوق الإنسان حول الإعلام وحقوق الإنسان في العالم العربي، كان يفترض فيها أن تكون نوعاً من الاسترخاء والأحاديث المريحة للنفس والخاطر، بعيداً عن نقاشات اليوم الفائت، تحولت، وكما هي العادة العربية، إلى جلسة نقاش سياسي صاخب. وفي الحقيقة فإن الظروف الراهنة تفرض نفسها على أي حديث، حتى لو كان العرب من غير مدمني السياسة ومحبي الجاد من الحديث، عندما لا يتجاوز الحديث مجال الحديث بالطبع. كان الحديث حول العراق، وهل من حديث إلا حديث العراق هذه الأيام؟ كان السؤال الذي يلح بنفسه على الجميع، والكل يسعى إلى نوع من إجابة شافية هو: ما هو الموقف الأنسب في مثل هذه الأوضاع التي نمر بها؟ هل يجب أن نكون مع الحرب أم ضد الحرب، أم لا هذا ولا ذاك؟ سؤال حدي في بنيته، يستلزم إجابة حدية، فيما لو التزمنا الموقف السياسي العربي التقليدي في مثل هذه الأمور، أي موقف مع أو ضد، إما أو. كما أنه سؤال براغماتي فيما لو أردنا البعد عن الحدية، والبحث عن موقف يحقق ولو بعض المصلحة، فيما كل الأمور تنذر بالويل والثبور وعظائم الأمور. انفضت الأمسية دون خاتمة حاسمة: فلا استرخاء وراحة للنفس حصلت، ولا إجابة متفق عليها نتجت. عاد الجميع إلى مهاجعهم والسؤال يطوف في الأذهان، وحالة من القلق والحيرة تطوق الجميع بردائها: فلا القائل بضرورة الحرب كان قادراً على تجنب أسئلة جانبية مرعبة في إجاباتها، ولا القائل بعدم تأييد الحرب كان قادراً على تجنب أسئلة تفصيلية أخرى، لا تقل رعباً في مضمون نتائجها، ولا القائل بلا هذا ولا ذاك كان قادراً على إظهار ولو بصيص من نور في آخر النفق.

نعم، كيف يمكن أن يتحدد الموقف المناسب من قضية مصيرية ووجودية بشأن المنطقة ومستقبلها. وعندما يُقال «موقف»، فإن المسألة لا تتعلق بمجرد رأي مبدئي، أو توجه ايديولوجي، أو تيار سياسي، أو جدل فكري، مع أهمية كل ذلك. المسألة تتعلق بكيفية التعامل مع واقع مرفوض من الذات، ولكن يجب التعامل معه لأنه مفروض بقوة الأحداث. ليس هناك إجابة حاسمة في مثل هذه الأمور، فالحسم لا يكون إلا في عوالم لا تنتمي إلى عالم الواقع وإشكالاته، ولكن تبقى المحاولة من أجل الوصول إلى الموقف الأنسب، والذي قد لا يكون الأمثل في ظل هذه الظروف الضاغطة، بعيداً عن معطيات الحب أو الكره أو أمنيات النفس. فأن نحب شيئاً لا يعني أنه واجب الحدوث، وأن نكره شيئاً لا يعني أنه مستبعد الحصول، وليس بالأماني وحدها تسير الأمور في أية حال. كموقف مبدئي ومثالي، فإن لا أحد يحب الحروب وأعمال العنف عموماً، التي لا تجلب إلا الدمار وسوء حال في النهاية، مهما اختلفت نسبته. ولكن أن تكون الحروب ممقوتة من النفوس لا يعني أنها غير ذي صلة بواقع الحال، بل أن هذا الواقع يقول ان ما هو كريه إلى النفس هو الأكثر حدوثاً في التاريخ البائس للبشرية في هذا المجال. من هنا فإن التعامل مع الحروب وظروفها يجب أن يكون منطلقاً من التعامل مع واقع يفرض نفسه، دون نسيان الرفض المبدئي، وبالتالي محاولة الخروج من مثل هذه الظروف بأقل قدر من الأضرار، طالما أن المثال بعيد المنال. وفي أحيان أخرى كثيرة، لا يكون الخلاص من النار إلا بالنار، أو كما يُقال بأنه لا يفل الحديد إلا الحديد. موقف مثالي وجميل ورائع حين يكون الماء كافياً لإطفاء نار متلظية، ولكن ليس هذا هو واقع الحال في كل حال، وهنا تكمن المأساة.

فمن ناحية، فإن هنالك نظاماً حاكماً في العراق لا يعترف إلا بنفسه، ولا يرى إلا نفسه، فنراه يثير المشكلات والنزاعات منذ أن استقرت قواعده بالنار، وحتى اللحظة التي ينتحر فيها اليوم بالنار أيضاً، فلا وطناً بنى، ولا على جيرة أبقى. هو نظام مستبد يمكن له أن يُضحي بأول عراقي حتى آخر عربي إن وجد أن ذلك يساعده على البقاء والاستمرار ولو لسويعات إضافية. نظام استطاع بأجهزته التغلغل في العروق الدقيقة للمجتمع العراقي، بحيث أصبح هذا المجتمع مشلولاً، الفرد فيه يعيش أجواء خوف وظلام لا يستطيع معها الحركة إلى أمام أو إلى خلف. قد تكون معظم دول العالم العربي، إن لم نقل كلها، تعيش شيئاً من مثل هذه الأوضاع، ولكنها لا تعيشها كلها، إذ يختلف الهامش اتساعاً وضيقاً حين النظر إلى كل دولة على حدة. فإذا كان العراق هو حالة الصفر مثلاً، فإن بقية دول العرب تتوزع بين الصفر والخمسين، ولكن أياً منها لا يصل إلى الواحد والخمسين بأي حال. مثل هذا النظام يجب أن يسقط، من أجل شعبه ومن أجل جيرانه ومن أجل العالم كله، هكذا يقول منطق الأمور، ولكن كيف يكون السقوط؟ هذا هو السؤال.

أن يغير النظام من ذاته هو المنى وغاية النفس العليلة لحل يجنبنا الحروب ومآسيها، ولكن هل يمكن لمثل هذا النظام أن يفعلها؟ أشك في ذلك. فنظام يربط نفسه بذات وجود الكيان، ومصيره بمصير الكيان، هو نظام لا يهمه أن ينهار الكيان من أجل وهم بألا تغيب شمس النظام. أن يقوم العراقيون أنفسهم بالتخلص من هذا الكابوس الجاثم على النفوس، هو حل مثالي ومطلوب، ولكن هذا الشعب مشلول الحركة اليوم، غير قادر على فعل أي شيء في ظروفه الراهنة. وأن يقوم العرب بفعل ذلك، هو حل جميل ومرغوب، حين لا تكون للعراقي قدرة على التغيير، ولكن العرب مشغولون بأنفسهم ومشكلاتهم المحلية والإقليمية والدولية الخاصة، أو كما يقول المثل: «أنا اللي فيني مكفيني»، فكيف يشفي الناس من كان عليلا، فهل بإمكانهم فعل شيء، وهذه هي الحالة؟ كل المؤشرات تقودنا إلى نتيجة هي إلى النفي أقرب. الظروف والأوضاع تدفع دفعاً إلى القول ان التغيير إما أن يأتي من خارج الدائرة الوطنية العراقية والإقليمية العربية، وإما أنه لن يأتي. وإن أتى بعد حين الله أعلم به، فإن ذلك بعد أن تكون العلة قد قضت على كل أمل في الشفاء. ولكن أن نصل إلى هذه النتيجة، فإن الأمور لا تكون قد حُسمت، ولم تتوقف حيرة السؤال والبحث عن جواب. فمن هو هذا الخارج الذي يمكن أن يغير الأوضاع في العراق؟ ليس في الأفق إلا الولايات المتحدة، ولمصالحها الخاصة بطبيعة الحال، ولكن التقاء المصالح هنا هو الذي يجعل المصلحة الأميركية مصلحة عراقية في ذات الوقت. ولكن أن تلتقي المصلحة الأميركية بالمصلحة العراقية هنا، لا يعني استمرار هذا اللقاء طوال الوقت.

فقد يُستقبل الجندي الأميركي استقبال المحررين في بغداد أول الأمر، إذ أن الساقط في النهر يتمسك بالأفعى، كما يقول مثل تركي، ولكن ماذا بعد؟ فتحرير الكويت، وإعادتها إلى الخريطة في حرب الخليج الثانية، لم يشفع للجندي الأميركي، وها هو غير مرغوب في وجوده هناك من بعض الفئات والتيارات، رغم أن الظروف بالنسبة للكويت اليوم هي ذات ظروف الأمس إلى حد كبير. فالعراق بعد سقوط النظام لا بد أن يُحكم بطريقة شبيهة بالطريقة الأفغانية بعد الحرب ولو إلى حين، أي أن تكون للولايات المتحدة اليد الطولى هناك، وإلا فما فائدة الحرب؟ فالولايات المتحدة لا تريد العراق من أجل العراق فقط، ولكن من أجل ضرورات استراتيجة أخرى تراها. مثل هذا الوضع، وبعد انتهاء نشوة سقوط النظام، قد تدفع إلى عودة الحساسية تجاه الوجود الأجنبي، وعودة ذكرى الاستعمار والاحتلال، خاصة أننا شعوب تعيش على الذكرى، وتحركها الذكريات. ومن هنا، قد تبدأ مقاومة للمحرر ذاته، ويتحول صدام حسين إلى رمز نضالي معين، مما يدفع إلى مزيد من الوجود الأميركي في المنطقة، ومزيد من المقاومة، وخاصة الأصولي منها، وندخل عندها في تلك الدائرة المغلقة اللامتناهية من العنف والعنف المضاد، المقاومة والقمع، ومزيد من الوجود الأجنبي. كل هذا دون الخوض في حديث انفجارات الداخل العراقي الممكنة والمحتملة، وثورة إرث متراكم منذ أن جاء العسكر على ظهر دبابة. هذا في العراق، وفي المنطقة العربية والإسلامية، ستجد الحركات الأصولية، من دينية وقومية وغيرها، دافعاً لتجييش الشارع وخلخلخة الأوضاع السياسية والاجتماعية داخل مجتمعاتها. أما الأنظمة السياسية، فإنها ستجد نفسها عاجزة عن الحركة، فهي إن حاولت التحكم في مسار الأمور، إرضاء للولايات المتحد مثلاً، اتهمت بالعمالة للأجنبي، وكان ذلك مزيدا من التجييش لهذا الشارع، وإن هي امتنعت، أثارت الولايات المتحدة، أو حكمت على نفسها بالفناء طالما أنها لا تفعل شيئاً. أما النقطة الأهم في هذا السياق، رغم أهمية كل ما سبق، فهي انبثاق حالة دولية جديدة، يكون بمقدور دولة عظمى فيها التصرف وفق شرعيتها الخاصة، بعيداً عن الشرعية الدولية المجسدة في هيئة الأمم المتحدة. دائماً وأبداً كانت شرعية القوة هي التي تحدد مسار الأمور في الساحة السياسية، وخاصة في المجال الدولي، ولكن كان ذلك يحدث بالبحث عن غطاء يمنح الشرعية لممارسات القوة، وإلا ما الفرق بين ما يمارسه الجندي وما يمارسه الخارج على القانون؟ في حالة حرب ضد العراق دون غطاء من شرعية دولية، تكون الولايات المتحدة قد مزقت النظام الدولي، وبدأت في بناء عالم على شاكلتها، وبقوتها الخاصة تحديداً، وهذا يعني بداية اختلاط أوراق لا نعرف إلى أين سينتهي، قبل أن يبزغ فجر نظام دولي جديد كل الجدة. حالة غريبة وغير واضحة المعالم تلك التي نحن مقبلون عليها في حالة انطلاق شرارة الحرب، وهي قادمة كما تقول كل المؤشرات، وإلا فلا ثقة بأي مؤشرات بعد اليوم. هذا، ويتواصل التفكير بصوت عال.