مهمة بوش الصعبة

TT

اذا ما كان في خطابي الرئيس بوش اللذين القاهما خلال الاسبوع الماضي أية مؤشر، فيبدو، وفي الواقع، ان قلبه بات يتجه نحو مواجهة عسكرية مع العراق.

لأسابيع عدة حتى الآن حرص كاتب هذه السطور على طرح النقيض. حيث لم أكن اعتقد ان الادارة الأميركية ستمضي نحو الحرب. وذلك لأسباب عديدة هي: ان الرأي العام الأميركي وحتى اليوم لم يتعاطف مع الحرب ما لم يكن هذا المسعى مدعوما من الأمم المتحدة. كما ان غياب دعم الحلفاء يجعل الحرب حافة بالمخاطر من ناحية تموينية وأخلاقية ودبلوماسية. وستكون الحرب مغامرة باهضة التكاليف لا يمكن للاقتصاد الأميركي المنهك ان يتحملها. وهناك حقيقة ان مغامرة عسكرية أميركية في منطقة الشرق الأوسط، في هذا الوقت وتحت الظروف الراهنة، تحمل في طياتها مخاطر جسيمة وستضاعف من التعقيدات التي تعاني منها بالفعل العلاقات العربية ـ الأميركية.

لهذه الاسباب طرحت مرارا ان الادارة الأميركية ستواصل ضغوطها على العراقيين لكي يتخلوا عن اسلحتهم، لكن ذلك لن يبلغ حد الحرب. اما الآن فلست متأكدا مما سيحدث. فخطاب حال الاتحاد ثم الكلمة التي ألقاها الرئيس بوش في غراند رابيدز بولاية ميتشغن في اليوم التالي، وضعت الرئيس في موقف يبدو على الارجح خطيرا، بطرحه ان هذه الحرب تمثل تفويضا تاريخيا وضرورة دينية يشعر انه ملزم بالوفاء بهما.

فبينما كان خطاب حال الاتحاد عرضا رسميا لموقفه، الا ان الملاحظات التي طرحها في ميتشغن تبدو اكثر رسمية، وبالتالي فانها عكست بوضوح افكار الرئيس الشخصية، ولم يحظ ظهوره في غراند رابيدز بنفس الاهتمام الذي لقيه خطاب حال الأمة، لكن ولأن الرئيس تحدث بتلك الدرجة الواضحة من المشاعر والاقتناع، فمن المفيد تأمل ملاحظاته على اعتبار انها قد توفر بعض المؤشرات على ما يدور في عقل الرئيس.

في كل من خطابي حال الاتحاد وملاحظات ميتشغن، ورد ذكر الحادي عشر من سبتمبر وتنظيم «القاعدة» بشكل عابر. ولم يرد ذكر أسامة بن لادن على الاطلاق، وبدلا من ذلك يبدو ان «الحرب ضد الارهاب» باتت الآن مجرد مبرر لاستكمال المهمة المنقوصة في العراق. وكما قال الرئيس بوش: «يحتاج العالم لقوتنا في هذا الوقت لجعله مكانا اكثر أمنا. والحرب ضد الارهاب ليست مرتبطة فقط بـ«القاعدة» التي نلاحقها. الحرب ضد الارهاب تتجاوز مجرد شبكة الارهاب الخفية. الحرب ضد الارهاب لها علاقة بصدام حسين بسبب طبيعة صدام حسين، وتاريخ صدام حسين واستعداده لتخويف نفسه. لقد أرعب صدام حسين شعبه. كما أرعب جيرانه. وهو يمثل خطرا ليس فقط على دول المنطقة، بل، وكما أوضحت الليلة الماضية، لعلاقته بـ«القاعدة»، ولتاريخه، كما انه يشكل خطرا على الشعب الأميركي. وعلينا حسم أمره. علينا ان نتعامل معه قبل فوات الأوان».

وفيما بعد يشير بوش باقتضاب الى الأمم المتحدة وعملية التفتيش ـ اللتين يبدو انه الى حد ما قلل من اهميتهما، الامر الذي ابتهج له مؤيدوه من جماهير ميتشغن. فيما يتعلق بالأمم المتحدة، قال الرئيس: «أريد ان تصبح الأمم المتحدة شيئا ما مختلفا عن مجرد تجمع خاو للجدل»، كما انه وصف مفتشي الأمم المتحدة بأنهم «مجموعة من 108 مفتشين يجوبون البلاد سعيا للعثور على شيء ما...».

وعندئذ يواصل بوش حديثه بالتأكيد على انه يأمل في حل النزاع سلميا. وهو يعترف «بالثمن البشع للحرب»، لكنه يشير الى «مخاطر عدم فعل شيء... وهي مخاطر لا تستحق المغامرة».

واخيرا، يلاحظ الرئيس انه «اذا ما اضطررنا للحرب.. فاننا لن نبخل بأقصى ما لدى الولايات المتحدة من قوة عسكرية، ومن اجل السلام، سننتصر». وفيما بعد يواصل طرح استنتاج مثير للدهشة لابد من ذكره كاملا، ويضمن التالي:

«سنحرر شعبا. هذه الأمة العظيمة والقوية تحركها ليس فقط القوة من أجل القوة، بل القيم التي نحملها. ولو كنا نهتم بكل شخص، ولو كانت حياة الجميع تهمنا، فحينئذ علينا ان نأمل ان يتمتع الجميع بهبة الإله المتمثلة في الحرية. اننا نذهب الى العراق لتجريده من الاسلحة. كما اننا نذهب ايضا لضمان ان يحصل اولئك الجوعى على الطعام، وان يلقى أولئك المحتاجون الرعاية الصحية، وان يحصل أولئك المراهقون على التعليم الذي يحتاجونه. لكن الاهم من ذلك، اننا سنؤكد قيمنا. وأعظم قيمة نتمسك بها هي قيمة الحرية. وكما قلت الليلة الماضية، ان الحرية والتحرر، ليسا منحة من أميركا للعالم، بل انهما هدية الإله للبشرية. ونحن نتمسك بهذا الاعتقاد عزيزا على قلوبنا.

هذه أمة عظيمة. ان أميركا دولة قوية. ان أميركا أمة مشحونة بأولئك الذين يتميزون بالشفقة. ان أميركا أمة على استعداد لخدمة قضايا تتجاوز مصلحتنا. وما من شك اننا نواجه تحديات امامنا; تحديات في الداخل، وتحديات في الخارج. لكن وكما قلت الليلة الماضية، لقد استنجد التاريخ بالأمة التي يمكنها العمل. لقد دعا التاريخ الولايات المتحدة لكي تعمل، ونحن لن نخيب أمل التاريخ».

وهكذا اذن، يدور في ذهن الرئيس ان هذه الحرب من أجل السلام ولتعزيز القيم ـ ليس القيم الأميركية، بل قيم الإله. ويعتقد الرئيس ان أميركا هي مجرد مندوب للاله، او مندوب للتاريخ ـ و«نحن لن نخيب أمل التاريخ».

ويبدو ان استراتيجية البيت الأبيض خلال الأسابيع القليلة المقبلة تستند الى جعل الرئيس يكرر طرح ملاحظات ميتشغن في مواقع مختلفة بأنحاء الولايات المتحدة. فقد أدركوا ان على بوش ان يبذل قصارى جهده لاقناع الشعب الأميركي، الذي يبدو في الوقت الراهن اقل حماسا من رئيسه فيما يتعلق بالحرب.

فاستطلاعات الرأي التي أجريت قبل خطاب حال الاتحاد اشارت الى انه بينما أعرب47 في المائة من الأميركيين عن تأييدهم للحرب ضد العراق، عارض 49 في المائة منهم مثل هذه الحرب. فالانقسامات عميقة بهذا الخصوص. وبينما يدعم أنصار الحزب الجمهوري الحرب بنسبة تتراوح بين 72 الى 24، هناك فقط 29 في المائة من أنصار الحزب الديمقراطي ممن يدعمون الحرب ، فيما يعارض 67 في المائة منهم هذه الحرب. أما المستقلون فيعارضونها بشكل واسع، حيث أعرب 56 في المائة منهم عن معارضتهم لها فيما قال 41 في المائة منهم انهم يؤيدونها.

سبب واحد رئيسي لهذا الانقسام الحزبي هو حالة الانقسام العرقي والاثني الذي يبدو انه ميز بين أنصار الحزبين. ففيما يتعلق بالحرب ضد العراق ، قال اكثر من ثلثي الأميركيين العرب وذوي الأصول الاسبانية (وكلاهما الى حد كبير من مؤيدي الحزب الديمقراطي) انهم يعارضون الحرب، فيما أعربت نفس النسبة من البيض «الذين ولدوا مسيحيين ايضا» (ومعظمهم من أنصار الحزب الجمهوري) عن تفضيلها للحرب ضد العراق.

من المثير ان يلاحظ المرء ان الاستطلاعات تشير ايضا الى انه بينما تعتقد الاغلبية ان الرئيس عزز موقفه «بشأن اقحام القوات الأميركية في حرب مع العراق» (حيث تراوحت النسبة بين 53 في المائة الى 43 في المائة )، الا انها مع ذلك تعارض هذه الحرب. الاسباب الرئيسية لذلك كانت: افتقاد الدعم الدولي، والخوف من الضحايا البشرية (أميركية وعراقية) والاثر المستقبلي للحرب على الولايات المتحدة.

وهكذا وحتى مع طرحه لقناعاته الجلية العميقة ذات الطابع الديني الى حد كبير، ما يزال الرئيس يواجه رأياً عاماً أميركياً متسائلاً. وقد يقع العبء الأكبر المتعلق بحشد الدعم الدولي على عاتق وزير الخارجية كولن باول خلال سعيه لاقناع مجلس الأمن الدولي خلال هذا الاسبوع . لكن بوش هو الذي سيكون عليه اقناع الشعب الأميركي. ومن خطاب ميتشغن يبدو ان الرئيس أقنع نفسه. ويبدو كمن قرر تنفيذ مهمة، لكننا سنرى ما اذا كان يستطيع القيام بها.

* رئيس المعهد الأميركي ـ العربي في واشنطن