بداية... وبضع نهايات

TT

مرافعة الجنرال كولن باول أمام مجلس الأمن الدولي هذا الاسبوع، كانت آخر ورقة توت تغطي التحضيرات الاميركية لحرب احتلال العراق، وذلك بعدما أخفقت «الحرب النفسية» والتهديدات المباشرة بإقناع الرئيس العراقي صدام حسين بالتقاعد باكرا.

الجنرال باول، في نهاية المطاف جنرال وليس عميد المحامين السنهوري باشا ـ رحمه الله. وهو حتى تحت قبة الأمم المتحدة إنما كان يتكلم بهدف إقناع الشعب الأميركي بضرورة شن الحرب.. لا مندوبي مجلس الأمن.. ولا دول العالم بكبيرها وصغيرها، التي هي كلها في حسابات «شلة تشيني ـ رمسفيلد ـ وولفويتز ـ بيرل» صفر على الشمال.

فأميركا اتخذت قرار الحرب من زمان، بالأمم المتحدة او من دونها، واعلنت بالفم الملآن على لسان الرئيس جورج بوش شخصياً ان «من ليس معي فهو ضدي». ووفق منطق البلدوزر الدبلوماسي هذا، فرضت على دول العالم إما الاصطفاف في الطابور او دفع ثمن التمرد على الارادة العليا غضباً وعزلاً سياسياً وحصاراً اقتصادياً وترشيحاً لقائمة «الدول المارقة» المهادنة للإرهاب.

من يفهمون في مجال الادلة القانونية الدامغة لم تزدهم مرافعة باول شيئاً.

فالصور الفضائية قد تكون مفبركة او «تأويلية» او لا تكون، وقد تكون مأخوذة فوق العراق او مأخوذة فوق باكستان او ديزني وورلد.

والتسجيل الصّوتي قد يكون حقاً بين ضابطين من ضباط نظام بغداد، وقد يكون ايضاً حواراً مسرحياً بين متطوعين من المعارضة العراقية مدعومين بمؤثرات صوتية هوليودية متقنة. و«المعلومات» عن علاقة نظام بغداد و«القاعدة» قد تكون صحيحة وقد تكون ايضاً تبرعات سخية من «السي آي آيه» و «الاستخبارات الصديقة»، كما قال باول، التي من المرجح ان تكون «الموساد»، بالنظر الى استبعاد الاستخبارات البريطانية ـ حتى يوم أمس ـ وجود اي علاقة بين الجانبين. اما أطرف ما في أمر هذه العلاقة ان رجال «القاعدة» الذين أفادنا بأمرهم الجنرال باول يتمركزون في منطقة شرق كردستان العراقية، التي هي حسب معلوماتي المتواضعة ما زالت خارج سلطة بغداد!!

في المقابل هناك علامات استفهام تطرحها المرافعة بدلاً من أن تجيب عليها، منها مثلاً:

ـ إذا كانت هذه المعلومات صحيحة... فلم لم تقدمها واشنطن الى مفتشي الأمم المتحدة منذ البداية فتوفر عليهم ما عانوه من تعب وما بذلوه من جهد؟

ـ إذا كانت «حماية» المصادر هي الذريعة المسوّقة لتأخير إعلان هذه القرائن، فما أعلنه باول لا يهدد اي مصدر على الإطلاق. وبالتالي هل كانت ثمة اعتبارات «إخراجية» مسرحية أخرى وراء الكشف الدراماتيكي في مجلس الأمن؟

ـ إذا كانت تقنيات التنصّت والتسجيل الاميركية على هذا المستوى من التقدم بحيث تسجل حواراً بين ضابطين عراقيين، فهل يا ترى صوت الرئيس العراقي ـ الذي قيل لنا غير مرة ان الاستخبارات الاميركية أخفقت في اغتياله لتعذر رصد تنقلاته ـ من طبقة استثنائية.. «سوبر سوبرانو»، مثلاً، بحيث يستعصي رصدها؟

ـ كيف يمكن لأناس عندهم ادنى حد ممكن من العقل ان يصدّقوا كلام «مصادر المعارضة» او «اعترافات» أسرى «القاعدة»، إذا كان جيش من «مصادر المعارضة» يعيش على حساب حكومة الجنرال باول، وإذا كانت «اعترافات» الأسرى لم تسحب منهم، او لم يُدلَ بها، في محاكمات علنية امام محامين ومحلفين؟

بناء على ما تقدم، يجب الإقرار ان مرافعة باول جاءت خطوة سياسية لتبرير الحرب، واستمالة المترددين الأميركيين ـ الاميركيين فقط ـ الذين لم يحسموا بعد مواقفهم من حرب لا يعرف رقعة اتساعها سياسياً إلا زمرة من كبار مخططي الشؤون الاستراتيجية في الولايات المتحدة. فقبل بضعة ايام تكلم الموفد وليام بيرنز، مشكوراً، وطمأن القلقين الكثر في العالم العربي الى انه «لا وجود لقائمة تغيير» اميركية للمنطقة مع ان واشنطن مهتمة بإحداث تغييرات. غير ان الطمأنة مضللة لأنها تناقض تماماً لما قاله باول نفسه بالأمس امام الكونغرس، وما نشر وما ينشر يومياً تقريباً في الصحافة ومجلات الابحاث و«اللوبيات» الاميركية الراسخة في العلم، والوثيقة الصلة بطابخي الحروب والانقلابات ومرتّبي تغيير الانظمة وتقسيم الدول.

إذاً نحن الآن امام بداية واحدة وعدة نهايات.

البداية الواحدة هي بداية العد التنازلي للنظام العراقي حرباً... ما لم يتيسر انقلاب داخلي يخدم الغرض السياسي والاقتصادي للحرب من دون أكلاف بشرية باهظة. فواشنطن ـ كما أكدت منذ أشهر تريد العراق كله حياً او ميتاً، والعد التنازلي بدأ بالفعل.

أما أبرز النهايات العديدة فهي:

ـ نهاية جامعة الدول العربية. ومعها استطراداً النظام السياسي العربي. فاحتلال فلسطين عام 1948 ادى الى إحداث تغييرات جذرية في النظام السياسي العربي. واحتلال سيناء والضفة وغزة والجولان عام 1967 انهى الظاهرة الناصرية وأنهك الرهان العربي القومي على المستقبل. والاحتلال الاسرائيلي لنصف لبنان عام 1982 أسقط النظام السياسي العربي من الحسابات الرصينة. وتسارع انهيار النظام السياسي العربي عام 1990 مع احتلال الكويت ومن ثم تحريرها بقوات اميركية ودولية. والآن مع احتلال العراق عام 2003 ستطلق رصاصة الرأفة على هذا النظام... وتصح الحكمة القائلة «إكرام الميت دفنه».

ـ نهاية «الاتحاد الاوروبي». أوروبا التي ثبت عجزها عند ترددها المخجل في معالجة أزمات البلقان، انتهت سياسياً بـ«انقلاب الثمانية» المؤيد لواشنطن ضد محور باريس ـ برلين. ولا شك في أن مستقبل «الاتحاد» سيكون بعد استتباب «السلام الاميركي» في الشرقين الادنى والاوسط، فضفاضاً الى درجة تتحلل فيها هويته المستقلة، ويتحول الى فضاء ارضي رديف اقتصادي وهامشي سياسياً في خدمة المنظور الاستراتيجي الاميركي.

ـ نهاية الأمم المتحدة. كثيرون توقعوا نهاية الأمم المتحدة بعد انتهاء الحرب الباردة، وجاء اختزال مدة الأمين العام السابق بطرس بطرس غالي، «الفرانكوفوني»، الذي لم تكن واشنطن مرتاحة لاستقلاليته مؤشراً ومفصلاً في عمر المنظمة.

وبالفعل جاءت مادلين اولبرايت بعده بالامين العام الحالي كوفي أنان. وهو اليوم موظف امين، نظيف اليد، سليم الطوية، لا يفهم في السياسة، يذهب كل صباح من البيت الى المكتب ويعود في المساء من المكتب الى البيت... والسلام على من اتبع الهدى.

«الفيتو» صار من فولكلور الماضي. فـ«الرفاق» السابقون في موسكو شركاء صغار في نفط بحر قزوين. و«رفاق» بكين شرقيون مهذبون يتحاشون إغضاب واشنطن في أمور بعيدة عن مصالحهم المباشرة. وفرنسا تشاغب فقط من أجل البقاء لأنها تعرف حدودها. وبريطانيا مجرد قاعدة اميركية متقدمة داخل أوروبا.. تحمّل الآخرين مسؤولية انهيار المنظمة اذا رفع احدهما يده بـ«الفيتو» ضد هجمة الهيمنة الاميركية على العالم.