خطاب الذهاب إلى الحرب

TT

سيكون يوم الخميس، السادس من شباط (فبراير) من العام 2003، يوما يسجله التاريخ. فيه ألقى الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش خطاب الحرب ضد العراق. وسيسجل التاريخ أن هذا الخطاب كان خطاب الإعلان الأميركي عن بدء العمل لفرض النظام العالمي الجديد، وتحول الولايات المتحدة إلى إمبراطورية تريد أن تحكم العالم. وفي هذا النظام الإمبراطوري الجديد، هناك مركز يأمر، وهناك جهات تطيع. وقد ذهب الرئيس بوش في خطابه مباشرة نحو عش النسر، طالبا من مجلس الأمن أن يبادر إلى تقديم فروض الطاعة. قال في خطابه إن اللعبة مع العراق قد انتهت، وطلب من مجلس الأمن قرارا يؤكد ذلك، وإلا يكون مجلس الأمن قد تخلى عن دوره في حماية السلام في العالم، وآنئذ لا تعود هناك حاجة لبقائه، فإما أن يرضخ وإما أن يتغير، وهذا هو قانون النظام الإمبراطوري الجديد.

قبل خطاب الرئيس بوش بيوم واحد، ألقى وزير خارجيته كولن باول خطاب التمهيد أمام مجلس الأمن، أورد فيه ما لديه من معلومات تبرر الحرب ضد العراق. وإذ تحدثت أغلب الدول في المجلس مقللة من قيمة المعلومات، ومستغربة أن تستخدم كمبرر لإعلان الحرب على العراق، ومطالبة ان تبقى مهمة المعالجة بين يدي لجنة التفتيش، فقد شعر الرئيس الأميركي أن خطاب وزير خارجيته لم يحقق الهدف المنشود، فقد أثار البلبلة بدل الإقناع، فكان أن رمى بثقله وراء الخطاب، ساعيا إلى تحقيق عدة أهداف بضربة واحدة.

الهدف الأول: العودة إلى المربع الأول في فرض السياسة الأميركية على العالم، فكما كان الحال عشية النقاش الأول في مجلس الأمن، حيث ذهبت أميركا لتأمر بإصدار قرار بإعلان الحرب على العراق، وفشلت في ذلك بصدور القرار 1441، فها هي تذهب الآن مرة ثانية للغرض نفسه، أن تأمر مجلس الأمن بإصدار قرار يقول للعراق ان اللعبة قد انتهت، وإن العالم كله سيقف وراء واشنطن لشن هذه الحرب.

الهدف الثاني: مخاطبة الرأي العام الأميركي، لتأمين وقوفه بشكل قوي وراء قيادته، بعد أن انتقلت البلبلة السياسية من مجلس الأمن إلى الشارع الأميركي.

الهدف الثالث: التأكيد للعالم بأن المعلومات التي تعلنها أميركا هي الحقيقة ولا حقيقة سواها. ولهذا حرص الرئيس الأميركي أن يكرر في خطابه حرفيا كل الحجج التي أوردها باول في خطابه، وزاد عليها أن أسلحة النظام العراقي (الموجودة، فقط لأن أميركا تقول انها موجودة)، تهدد المواطن الأميركي، تماما كما هددت العملية الإرهابية في 11/9/2001، المواطن الأميركي. وزاد عليها أيضا عزمه على وضع استراتيجيته الجديدة موضع التطبيق،فعلى الولايات المتحدة أن تذهب إلى موقع الخطر المحتمل وتضربه قبل أن يصل إليها. إنها الحرب ضد النوايا، وضد الإحتمالات، وضد الشكوك. إنها حروب النظام الإمبراطوري الجديد.

لقد سبق لوزير الخارجية الأميركي باول، وكان لا يزال بادئا في مهمته الجديدة،أن خرج في جولة يتحاور فيها مع حلفاء أميركا في العالم، فزار فرنسا والتقى مع وزير خارجيتها الأسبق هوبير فيدرين، وتحاور معه حول السياسة الأميركية الخارجية وتوجهاتها، وحين لاحظ فيدرين اختلافا في المعلومات بين باريس وواشنطن حول قضايا هامة، طلب حوارا حول هذه المعلومات للتدقيق فيها، وفوجئ بزميله الأميركي يبلغه أن لا أهمية لذلك «لأن ما تعلنه أميركا هو الحقيقة»، وصعق فيدرين من دون شك حين سمع ذلك، فشن حملته الدبلوماسية الشهيرة ضد السياسة الخارجية الأميركية، لأنه اشتم منها مبكرا منهج التطويع الذي تتطلع إليه. وها هو باول يقف بعد سنوات أمام مجلس الأمن، مقدما معلوماته عن تسلح العراق، وفي خلفية موقفه أن لا أهمية لصحة المعلومات أو قيمتها «لأن ما تعلنه أميركا هو الحقيقة».

ستذهب أميركا إلى الحرب إذا، بعد أن تلى الرئيس الأميركي «الأمر اليومي» بالحرب على الجميع. وقد يصفق البعض لهذا الإعلان، فهو سيخلصهم من «الطاغية»، وسيقدم لهم «الديمقراطية» على طبق من فضة، لولا أن باول نفسه تقدم متبرعا ليخلصهم من هذا الوهم، فقال بصراحة بعد خطاب بوش، وأمام مجلس الشيوخ الأميركي، إن الحرب ضد العراق ستمهد «لإعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط جذريا بما يناسب مصالح الولايات المتحدة».

هذه الحرب التي نتحدث عنها ببرود، نحللها سياسيا وعقليا ومنطقيا، تنطوي على مآس ودماء، وسيكون فيها قتلى وتدمير، وستشهد ضغطا هائلا من أجل انتزاع الإرادة السياسية من أهل المنطقة وابنائها، ولا ندري حتى الآن عدد الذين سيسقطون ضحايا حين تتحرك الآلة الأميركية لتطحن عظام الجميع، من أجل إعادة تكوينها «بما يناسب مصالح الولايات المتحدة»، فحتى في تأريخ الحروب يتم اختصار المآسي الفردية إلى أرقام جماعية: قتل مائة ألف، قتل مائتا ألف، قتل مليون نسمة، وتكون الآلة قد هضمت عظام الناس وعادت لتعمل بشكل سلس ومرن، بعد أن تكون الروح قد سلبت من الجسد. وإذا كانت الحرب تحتاج إلى 250 ألف جندي لإنجازها، فكم نحتاج إلى صحافيين وشعراء وكتاب ورسامين، لكي نسجل المأساة الإنسانية التي تتولد عن الحرب؟ وهل نستطيع حشد 250 ألفا من هؤلاء لكي يتولوا تسجيل الجانب الإنساني المخفي من تلك الحرب؟

وإذا كانت الحرب تأتي كالعاصفة، فإن بواكير العاصفة تهب علينا الآن، ونحن نعاني من لسعاتها، ونعاين زمجرة الريح فيها. ونظرة سريعة إلى ما يفعله جيش الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، تستطيع أن تقدم لنا صورة عن المستقبل، وصورة عما سيحدث، مضاعفا، حين تندلع الحرب. لقد وافق الرئيس بوش على تأجيل البحث في (خارطة الطريق) حتى تنتهي الانتخابات الإسرائيلية، ثم وافق على تأجيل البحث ثانية إلى أن ينتهي آرييل شارون من تشكيل حكومته، وسيوافق حتما على تأجيل البحث للمرة الثالثة حتى تنتهي الحرب ضد العراق، فالتأجيل ضروري من أجل أن تتم تهيئة المسرح لإنجاز الحل الإسرائيلي للموضوع الفلسطيني.

وفي الجهة الأخرى من العالم، في كوريا الشمالية وحولها، تتجمع نذر العاصفة أيضا، لشن الحرب الإمبراطورية الثانية أو الثالثة أو الرابعة (أفغانستان، العراق، فلسطين، كوريا)، وذلك قبل أن نتوقف عن العد. وكما ستكون الحرب ضد العراق مدخلا «لإعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط»، ستكون الحرب في شبه الجزيرة الكورية مدخلا «لإعادة تشكيل منطقة آسيا». وحين يكون الجميع على دراية ومعرفة بأن حرب كوريا ستكون حرب الصين من ورائها، نستطيع أن نخمن، وأن نحس، وأن نرى، أي خطر يتهدد مساحة أخرى واسعة من العالم، وأية مآس تنتظر ملايين أخرى من الناس هناك.

إن أخطر ما نواجهه اليوم، ولادة جيل من السياسيين يرحب بالاستعمار من أجل التخلص من «الطاغية»، ويغطي عجزه عن تغيير النظام في بلده بتبرير التعامل مع أي جهاز مخابرات أجنبي. ثم لا بد لكل عمل سياسي من أن يصل إلى بلورة سنده الفكري، وها هم منظرو الجيل الجديد من هؤلاء السياسيين، يصورون لواشنطن أن المدخل لتطوير العراق ديمقراطيا هو في نزع صفته العربية. لقد كتب المثقفون من هؤلاء السياسيين كثيرا عن ضرورة التخلص من مرض «الهوية»، وضرورة الانفتاح على العالم والعولمة بدلا من ذلك، وها هو التخلص من مرض «الهوية» يقودنا إلى التخلص من مرض «العروبة»، وربما يكون مطلوبا منا بعد ذلك أن نعرف أنفسنا كأميركيين أو بريطانيين أو هنودا أو آسيويين، أو.... الله أعلم.