ثقافات الهروب

TT

تميل النفس البشرية بطبيعتها الى تبني حلول مؤقتة، وتفضل ممارسة الهروب بدل تحمل مشقة المواجهة. ربما يعود ذلك، الى علاقة خاصة قائمة بين الذات والزمن، وبين الذات وايقاع ادارة الاشكاليات، أي أن النفس يحركها في مختلف الأفعال الصادرة عنها، وعيان: وعي يتصل مباشرة بالعمر الشخصي، ووعي آخر يستلقي على كافة جنبات سرير الزمن.

وثقافة الهروب، تجد ضالتها في المسافة الفاصلة بين الوعيين، ويطول زمن الهروب، كلما تمكنت النفس البشرية، من الاقامة في الوعيين من دون عناء يذكر.

ومن دون شك، المواقيت التي كانت فيها ثقافة الهروب سيدة الثقافات كثيرة وعديدة، بل هي مواقيت رغم خضوعها لعقارب الساعة، الا أنها صعبة التحديد وعصية القبض. واذا اعتبرنا أن الفضاء الممتد بين الديانات التوحيدية الثلاث، كان يمثل منطقة خصبة للهروب في مختلف العهود، فان الأحداث التي نعيش قد أعادتنا الى عالم هذه الديانات، لتبرير ما يحصل اليوم من توترات اتخذت شكل الحرب.

ومن الواضح أن ثقافة الهروب قد مارسها البعض من اتباع الديانات الثلاث عبر استراتيجيات مختلفة سلكت أحيانا منحى الدفاع، وأحيانا مسلك الهجوم، فصار الهروب، كرد فعل معادل لعملية الدفاع عن الدين المنتمى اليه من جهة، ومعادل أيضا لفعل الهجوم، في سياقات مغايرة. لذلك فان الهروب هو الخطأ المشترك الذي مارسه بعض اتباع الديانات الثلاث، وها هم المنتمون لهذه الديانات يجدون انفسهم وجها لوجه أمام ضرورات المواجهة والحوار.

ومن المفارقات العجيبة أننا حتى في جوهر محاولتنا للمواجهة، وللحوار، لم نتخل عن آلية الهروب، ففضلنا غض الطرف عن بقع الجليد الحقيقية، والتحرك في بقع التنظير المهم والأجوف في الوقت نفسه. من ذلك أنه في آخر ندوة عقدت منذ أيام قليلة حول مستقبل الحوار بين الديانات، آثر المتدخلون الهروب الى المستقبل للحلم بالحوار بين الأديان، وليس النظر في واقع العلاقة أو العلاقات القائمة، بل أن كل التركيز ينصب على الديانتين المسيحية والاسلامية مع المرور مرور الكرام على ما جرى من استغلال ايديولوجي بالغ الأذى للديانة اليهودية.

لا شك في أن علاقات التوتر الديني ليست جديدة، الا أن ممارسة الهروب والانطواء أديا الى حالة جهل ديني في العالم. وليست هذه الأمية الدينية هي المفسر التلقائي والمباشر للصدامات التي وقعت، ولا تزال تقع، بل أن ما أشعل فتيل التوتر هو الاستغلال الاسرائيلي لهذه الأمية، واستثمارها كورقة لعب سياسي واقتصادي وثقافي، لذلك فان الذين رجحوا أن يكون الصراع القائم اليوم سياسيا أكثر من كونه ثقافيا أو دينيا، هم الى حد ما على حق، ولكن ما فات أصحاب هذه القراءة هو أن الصراع قد أنتج في فضاء العالم الاسلامي ردة فعل ثقافية، وذلك لأن المسلمين اليوم لا يملكون من اللباس غير ردائهم الثقافي ولا رداء لهم غيره، وهم في ذلك على خلاف العالمين المسيحي واليهودي اللذين يمتلكان دواليب كثيرة من الملابس المتنوعة، فيرتدون الرداء السياسي والاقتصادي والايديولوجي، أي أن لباس الصباح غير لباس السهرة والمساء، في حين أن المسلمين لا يرتدون الا نفس الجبة، وبحكم التهميش الدولي لهم، فقد تمسكوا بقيمهم، وبثقافتهم تمسكا اتخذ طابع القوة والغليان والاحتضان، وكل مهمش في النهاية، يلوذ بارثه الثقافي، ليتصالح مع نفسه ومع وجوده.

ويبدو أن المستفيد الوحيد من حالة الأمية الدينية، هم المتطرفون اليهود الذين كتبوا على البياض الممتد ما راق لهم من الصور عن المسلم، وعن العربي. والتطرف اليهودي ساهم في تغذية التطرف المسيحي والتطرف الاسلامي، من دون أن ننسى ان الصهيونية قد ركبت صهوة الأمية الدينية، لدق الكينونة العربية والاسلامية.

وهذا يعني أن الهروب الديني قد فسح المجال واسعا لأرباب الحيلة، وللذين يستثمرون اللاتواصل لتحقيق تواصل من نوع آخر، أي كي يبقى الحوار مسدود الأفق.

وينسى أصحاب المقاربة الحالمة والاستشرافية الوردية للحوار بين الأديان انه بالاقرار بمعطى الهروب المشترك، لابد من الاعتراف أيضا بامتداد آلية التآمر، تلك الآلية التي يحاول معظم المتدخلين في مجال الحوار بين الأديان تلافيها لأسباب سياسية غير مقنعة، فيقع المتدخلون في ما يمكن أن نسميه بالتآمر على التآمر، أي أننا سندخل في متاهات دائرة لا حد لدورانها، في حين أن مواجهة البراكين المتحركة في العلاقات بين اتباع الأديان الثلاثة هو الحل، بل أن فتح ملفات التآمر الديني هو أهم فتح حقيقي يمكن للمختصين أن يقوموا به، وأعتقد أنه لولا الأمية الدينية ومسافات الجليد المتراكمة بين الديانات، لما تغذت المؤامرات، ولما وجد أصحابها التربة خصبة للزرع وللحصد، بينما لو تجاوز اتباع الديانات الثلاث ثقافة الهروب التاريخي، لوجد المتصيدون الايديولوجيون الأبواب موصدة أمامهم، وحتى لو تمكنوا من تشكيل بعض الأذى فان الثقافات كانت ستنجح في الدفاع عن مناعاتها.

اننا في زمن يظهر غير ما يبطن، وحقيقته مغايرة لادعاءاته، ولم يتحقق معنى القرية الصغيرة الا في مجال التنقل والمواصلات، بينما ظلت الروابط الانسانية والحضارية والثقافية، باردة وبعيدة ومتقطعة، وكأن كوكب الأرض مجموعة كواكب منفصلة آليا. فبعد كل هذه القرون من الوجود، ومن توارث الثقافات، ومن التديّن، ومن الصراعات، ومن التلاقي والفراق، نجد أن الأمية الدينية متغلغلة ومكتسحة لملايين من البشر. فغالبية المسلمين لا تعرف الكثير عن اليهودية، ومعظم المسيحيين لا يعلمون عن الاسلام غير اللحى وقمع النساء وحب الرجل المسلم لتعدد الزوجات!

ان هذه الطبقات الكثيفة من الأردان المعرفية التي فعلها الهروب، والذين استثمروا بشكل شيطاني غياب الحوار بين اتباع الديانات، تحتاج الى جهد كبير، والى زمن أكبر، والى مقاطعة ثقافة الهروب التي تجعل من كل مواجهة مؤجلة ثقيلة الفواتير في أزماتها الانسانية والثقافية. ومن أغرب ما يكتشفه المرء عندما يغوص في مثل هذه الاشكاليات، هو أن السياسة وأصحاب الايديولوجيات المتطرفة، هم الذين استعملوا الدين وطوعوه طبقا لمصالحهم رغم اعلانهم الفصل بين الدين والسياسة، وهو الأمر المخفي الذي لم نتطرق له لانشغالنا في تتبع أثر زعماء الاسلام السياسي. الواقع هو ان الاثنين استعملا الدين، ولكن بطرائق مختلفة: الأول استثمر اللاحوار، فوقع في لحظة اعلانه لعدم استعماله للدين في استعمال الدين.. الاستعمال الذي يريد. اما الثاني فقد استثمر اللاحوار للتأكيد على اصطباغ الدين الآخر بألوان السياسة، فكانت استراتيجية الدفاع حامية جدا!

* كاتبة وشاعرة تونسية