توقيت الحرب واحتمالات اليوم التالي

TT

التوجه الأمريكي لتغيير النظام في العراق ظل دائما مسألة توقيت ونقاش حول كيفية الاخراج، وليس في بحث المبدأ نفسه. وفي الآونة الأخيرة يمكن أضافة عامل جديد يضغط في اتجاه الحسم والتغيير وذلك للقضاء على حالة عدم الوضوح التي تظلل سماوات الأوضاع السياسية والاقتصادية داخليا وخارجيا.

ويمكن النظر الى بعض الاشارات الموحية. ففي الأسبوع الماضي نشرت بعض الأرقام الخاصة بأداء الاقتصاد الأمريكي، وأوضحت حدوث تراجع في الربع الأخير من العام الماضي، كما ان انفاق المستهلكين سجل نموا مقداره 1 في المائة فقط، وهو أدنى معدل له في غضون عقد من الزمان. ومع ان النمو الاقتصادي في العام الماضي كله بلغ 2.4 في المائة، الا ان ضعف انفاق المستهلكين يقلل من فرص تحسن الوضع الاقتصادي. ويعود هذا بصورة أساسية الى حالة عدم اليقين وغياب الوضوح المرتبطة بالحرب المتوقعة ضد العراق. ووصلت هذه الحالة الى قيام مجلس الاحتياط الفيدرالي بالابقاء على معدلات الفائدة على مستواها المنخفض، وهو أدنى معدل منذ 40 عاما، وذلك لأن الاجراءات النقدية لن تسهم في تحريك أوضاع تتعلق بعوامل جيوستراتيجية.

وفي المقابل قامت بريطانيا، وهي الحليف القوي للولايات المتحدة في مواجهتها المتوقعة ضد العراق، بخفض معدل الفائدة ربع نقطة مئوية لتصل الى أقل مستوى لها في قرابة نصف قرن من الزمان. تأتي الخطوة البريطانية لافتة للنظر من زاويتين: أولاهما أنها تأتي عكس الاتجاه الأوروبي العام فيما يتعلق بمعدلات الفائدة كما ان الوضع الخاص للاقتصاد البريطاني، الذي يعتبر أقوى اقتصاد في القارة، يفرض اتجاه معدلات الفائدة الى أعلى وليس الى أسفل تقليلا لاحتمالات تصاعد معدلات التضخم. ومع أن حركة البيع بالتجزئة سجلت نموا ملحوظا، الا ان ثقة المستهلكين تعيش حالة من التراجع، الأمر الذي دفع البنك المركزي البريطاني الى خفض سعر الفائدة، وهو ما يربطه المراقبون بالتطورات المتوقعة في الحرب ضد العراق.

وهكذا بدأت الضبابية التي تحيط بالوضع في العراق تضغط في اتجاه الحسم ولأسباب داخلية واقتصادية خاص، واذا أضيف عامل تكلفة الحشد العسكري التي يقدرها بعض المراقبين بأنها يمكن أن تصل الى أكثر من مليار دولار شهريا. ولا يقتصر الأمر على الولايات المتحدة وبريطانيا فقط، وانما هناك الانعكاسات الإقليمية خاصة فيما يتعلق بالسوق النفطية، حيث وصل الأمر بالمنتجين ترك الأمر الى أن تندلع الحرب كي يتصرفوا من واقع رد فعل السوق، وذلك بعد أن ضخوا كميات كبيرة من النفط في السوق خلال الأشهر القليلة الماضية ورغم ذلك ظلت الأسعار مرتفعة.

استمرار أسعار النفط في الارتفاع مع أحجام المستهلكين عن الانفاق، وبالتالي تراكم المخزون لدى الشركات التي تتجه تلقائيا الى تقليل استثماراتها في انتاج جديد، هو ما يؤثر بدوره على فرص التوظيف ويفاقم من الاحساس بتعميق حالة الكساد في الاقتصاد الأمريكي المستمرة رسميا منذ الربع الأول من العام 2001، وهو اأحساس خطر على المستوى السياسي الانتخابي حتى وان لم يكن كذلك في واقع الحال.

وتجربة جورج بوش الأب تمثل الحالة النموذجية لتبيان هذا الوضع. فقد بدأ الاقتصاد الأمريكي في الخروج من حالة الكساد التي كان يعيشها في أواخر العام 1991، لكن المناخ العام السائد لدى الجمهور ان الوضع ظل كما هو، خاصة ان التغطيات الاعلامية ظلت مناوئة وراسمة صورة سلبية لأداء بوش الأب الاقتصادي. يضاف الى ذلك رفض الآن جرينسبان رئيس مجلس الاحتياط الفيدرالي القيام بعملية خفض لأسعار الفائدة في ذلك الوقت تحفيزا للنمو رغم ان الذي أسهم بصورة فعالة في مجيئه الى منصبه جيمس بيكر وزير خارجية بوش وصديقه الحميم.

بقية القصة المعروفة المتمثلة في خسارة بوش الأب دورة رئاسية ثانية بسبب الوضع الاقتصادي المحلي رغم انتصاراته في السياسة الخارجية مثلت الدرس الأساسي الذي يسعى جورج بوش الابن الى تجنبه. وهنا أيضا يلعب التوقيت دوره. فهل يتقدم عامل الحسابات السياسية الضيقة وتأخير القيام بالضربة العسكرية الى أبعد حد ممكن وذلك استثمارا لوهج النصر العسكري في الحملة الانتخابية للدورة الرئاسية الثانية العام المقبل، أم تؤدي ضغوط الحشد العسكري نفسيا واقتصاديا وحالة الضبابية وعدم الوضوح التي تظلل مختلف المجالات الى التسريع بالحسم.

تزايد القناعة حول العالم، ان واشنطون ذاهبة الى الحرب وبتصميم قاطع لتغيير النظام في العراق، سيدفع المتشككين والمعارضين الى الانضمام الى الحملة الأمريكية بصورة أو أخرى. ويمكن اأستحضار الموقف الفرنسي في حرب الخليج الثانية قبل عقد من الزمان اذ نقل عن الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران قوله ان المساهمين في الحرب وحدهم لهم الحق في المشاركة في قطف ثمار ما بعد الحرب. ولهذا حسم التردد الفرنسي لجهة المشاركة الفعلية في القتال ورمى بثقله وراء التحالف الدولي.

وقتها كان الثمن متواضعا وتمثل في التواجد مع الجانب المنتصر والفوز ببعض التعاقدات، لكن الأمر مختلف هذه المرة بصورة كلية، اذ ان المطروح يتدرج من الحفاظ على التعاقدات التي أبرمتها الشركات الفرنسية والروسية والصينية مثلا مع بغداد وذلك بأمل الوفاء بها، وخير وسيلة لذلك المشاركة الفاعلة في تغيير النظام، الى احتمال أكبر يتمثل في المشاركة في اعادة رسم خرائط منطقة الشرق الأوسط وسط ترتيبات جديدة.

لأوروبا تاريخ طويل وقديم مع رسم الخرائط في الشرق الأوسط من باب الجوار الجغرافي والتجربة الاستعمارية، لكن الأمر مختلف هذه المرة مع دخول لاعبين جدد يسعون للعب دور نشط في اعادة ترتيب المنطقة وفق رؤى ومصالح ونفوذ يعلو على أوروبا وذلك بسبب ثقلهم الدولي ومستقبلهم والاشارة تحديدا الى الولايات المتحدة والصين، بينما تأتي روسيا في المؤخرة بعد أوروبا رغم انها المعنية بصورة أكبر بسبب التداخل الثقافي والسكاني بينها وبين المنطقة.

وهذا الوضع الذي تجد فيه المنطقة نفسها مثل اليتيم في مأدبة اللئام قد يدفع الى التعلق بأي قشة، وفي هذه الحالة الركض تجاه أوروبا بأمل إحداث شيء من الاستقرار في الميزان السياسي الدولي. نتائج التجارب الماضية أن أوروبا لم تستطع فعل شيء لصالح المنطقة حتى عندما كان للأخيرة ما تقدمه من جوائز نفطية ومالية.

ثم ان المطروح يمثل فصلا جديدا في تاريخ المنطقة يماثل عودتها الى منصة التأسيس. والأمل في المشاركة من باب الاسهام في التغيير تلبية للاحتياجات الداخلية والاستفادة من تيار العولمة الذي يوفر الامكانية للمشاركة الداخلية في التغيير المنتظر.