بورتريهات اللورد الوسيم

TT

من ينظر للورد بايرون باللباس الألباني والسيف القصير يظنه من غلمان ألف ليلة وليلة خصوصا بذلك الشارب الرفيع الذي يعلو شفتين شهوانيتين تكملان المخيال الرومانسي لهذا الشاعر الذي احب رسامو القرن التاسع عشر تمرين ريشهم على رسم وجهه الجميل، وبالغ هو شخصيا في ابراز ذلك الجانب الوسيم تعويضا عن نقص خلقي فيه فصار كعارضات الازياء يظهر على الدوام بأحسن ملامح وأفضل ثياب، ويفرض على المصورين والرسامين شروطه.

وان كنت لم تزر بعد معرضه في البورتريه غاليري في العاصمة البريطانية فامامك ايام معدودات قبل ان يقفل هذا المعرض ابوابه بكشوفاته المثيرة، فلأول مرة في التاريخ الادبي والفني يتحدث البريطانيون علنا عن امكانية ان يكون لوردهم وفارسهم من ذوي الميول الطبيعية وغيرها.

الرسوم لا تقول ذلك لكن الكتيب الذي اعد خصيصا للمعرض يناقش باستفاضة تلك الاحتمالات، فكاتبة سيرته «فيونا مكارثي» استفادت من تسامح ناشره «جون موري» واطلعت على أوراق ومراسلات لم تكن متاحة من قبل عن حياة ذلك الشاعر الصاخبة الذي قالت عنه ذات يوم عشيقته «الليدي كارولين لامب» انه «سيئ ومجنون ومن الخطر ان تعرفه» وقد اشتق العارضون اسم المعرض من هذا الوصف ليشجعوك على معرفته بشكل اعمق وادق وأكثر تحريضا للمخيلة.

ان اللورد بايرون ليس علامة على طريق رومانسية القرن التاسع عشر فحسب ولكنه علامة اخرى في مدرسة التمرد على التقاليد المحافظة، والثورة على النظم الاستعمارية فقد ترك بلده يستعمر نصف الدنيا وذهب هو ليساعد اليونانيين والألبان في ثورتهم ضد الاتراك ومن هناك ذاع صيته كثائر عالمي وهذه مرحلة يريد الانجليز الجدد استغلالها، لذا وضعوا صورة لتشي جيفارا للايحاء بأن لوردهم وشاعرهم هو الاستاذ الاكبر لكل المتمردين الذين جاؤوا بعده.

والسيرة الذاتية لا تقول انه ذهب للقتال في سبيل حرية الشعوب وتسكت، فهناك أكثر من اشارة وتلميح وتصريح الى ان هروبه من بريطانيا لم يكن لوجه الثورة وحدها، فقد اراد التخلص من الجو اللندني الخانق المحافظ، وهناك من يقول انه خاف ان تتم محاكمته بذات التهمة التي حوكم بها لاحقا اوسكار وايلد ودفع حياته في السجن والمنفى ثمنا لها.

والاضافة الجديدة التي الحقتها فيونا مكارثي بما قالته «ليزلي مارشاند» عن اللورد بايرون في الخمسينات ترجح هروبه خوف المحاكمة فقد كان له عشاق وعشيقات، في مجتمع كان يتسامح بالخيانات شرط ان يكون الشريك من الجنس الثاني وهو شرط لم يتقيد به اللورد الاعرج، فاغرق في الطبيعيات والمثليات وهذه كانت عند البريطانيين منذ الستينات موضة لكنها كانت في عشرينات القرن التاسع عشر تهمة تطير لأجلها الرقاب، فلا عجب ان يحاول اللورد الصاخب النجاة بجلده بعد تورطه مع من لا يحفظون الاسرار.

ومن المرجح ان يكون هناك المزيد من هذه الفضائح في المسلسل الجديد الذي يتم تصويره لصالح BBC عن حياة بايرون الذي سيقوم بدوره في المسلسل المعتمد على بعض وثائق المعرض الحالي الممثل «جون لي ميللر» الذي يشبهه الى حد كبير في الملامح، والباقي ربك وحده اعلم بخفاياه.

ومن هذا الالحاح على اسطرة بايرون تدرك ان الانجليز يريدون ان يفهموا شاعرهم اكثر فهو بالنسبة لهم من الالغاز، وكلما كثرت الكتابة والتلميع حول شخصية ما ازداد التناقض حولها وعدم الفهم لها، وفي حالة بايرون التناقض موجود في الاساس وفي لب الشخصية فذاك اللورد الذي كره كل ما هو انجليزي ظل على حد زعم «فيونا مكارثي» كاتبة سيرته انجليزيا حتى النخاع وهذه ملاحظة بحاجة لموسوعة لتفسيرها.

اما الشيء الآخر الذي يحتاج الى تفسير فهو لماذا يعيش الفضلاء اصحاب الاسلوب المستقيم، ويموتون دون ان يجدوا من يهتم بهم، وحين يأتي الامر الى المنحرفين واشباههم تجد رغبة عارمة وفضولا شديدا لمعرفة كل شيء عنهم، من العموميات الى ادق التفاصيل المحرجة.

والسبب كما اظن ان الشخصية المسطحة ذات البعد الاحادي لا تثير احداً، بينما الشخصيات المركبة تحمل في تناقضاتها الوانها وتتيح لصناع الدراما، والرسامين فرصة مثالية للاشتغال على تفاصيلها الخفية، وقد كان اللورد بايرون وسيظل واحدا من الشخصيات الملونة والمتعددة الابعاد والمواقف فقد كان ابن المؤسسة وضدها في ذات الوقت ثم جاء موته المفاجئ في اليونان بعد جرحه في معركة مع الاتراك ليعطيه البعد البطولي الذي يكمل الهالة الرومانسية للشعر والتمرد، وكلها عوامل ساهمت في نحت صورة بطولية ورجولية مختلفة عن الصورة الاصلية للورد الاعرج الذي كان يمكن ان يقف امام قضاء بلاده بتهم تمس الشرف والرجولة.