حوار ثنائي (ديالوج) حول الحرب

TT

* قال لصاحبه ـ وهو يحاوره ـ: لو كنتم تقرأون وعندكم استعداد للاقتناع، واطلعتم على ما كتبه (هنري كيسنجر) منذ ايام، لحسمتم موقفكم وانضممتم ـ دون تردد ـ الى جبهة الحرب ومعسكره. فقد قال كيسنجر: «كان معروفا: ان الخطوة التالية، بعد شهور من صدور قرار مجلس الامن 1441 ستكون اثبات «!!» مخالفة عراقية والتصدي لها. من هنا، وفي حالة التملص من خيار الحرب ستكون النتيجة كارثية على النظام الدولي عموما اذا انتهت الازمة من دون تغيير النظام في بغداد، واذا ارسلت الولايات المتحدة مئتي الف من قواتها الى المنطقة من دون تحقيق شيء. ففي هذه الحال فان مصداقية القوة الامريكية في الحرب ضد الارهاب، وفي الشؤون الدولية عموما سوف تتضرر بشدة.. والواقع ان الحلفاء غير فاعلين لان زعماء دول حلف الناتو يستشيرون المحامين. ولن ينتعش هذا الحلف الا عبر تفعيل المشاعر والروح المعنوية بعيدا «!!» عن قيود القانون والمواثيق».

هكذا بدأ المحاوِرُ المؤيّد للحرب.

ـ قال له محاوره المعارض للحرب: مبادرتك الى الاستشهاد بأقوال كيسنجر تفتح الشهية لمعاودة الاطلاع على سجله الطويل في التسبب في الازمات الدولية وهي ازمات وكوارث حملت هيئات في عالمنا هذا على المطالبة بمحاكمته. ولكني سأصادر هذه الشهية واحصر الكلام في النقطة نفسها فأقول: «ان كلام كيسنجر المحرض على الحرب يظل مجرد وجهة نظر. وهناك وجهات نظر اخرى مضادة، صادرة عن مستوى مماثل في الخبرة الاكاديمية والميدانية في الشأن الامريكي والشؤون الدولية ـ مع الاحتفاظ بالفروق الضرورية من حيث النزاهة والامانة ـ. فقد كتب (زبيغنيو بريجنسكي) مستشار الامن القومي الامريكي في عهد الرئيس الامريكي (جيمي كارتر) كتب يقول ـ في القضية ذاتها ـ: «هناك اسباب عدة لهذا التشويش الذي اصاب حلفاءنا المقربين. ويعود السبب الاول الى الطريقة التي برزت فيها المسألة العراقية الى السطح في اطار الحملة غير المقنعة ضد الارهاب. فالتركيز على تغيير النظام منذ صيف 2002 والمؤشرات الاولى بأن الولايات المتحدة ترغب في شن الحرب بمفردها: تسببت في اثارة شكوك مفادها: ان قرار الولايات المتحدة بشأن السعي للحصول على موافقة الامم المتحدة على نزع اسلحة العراق. لم يكن واضح المعالم. وقد تأثرت مصداقية الولايات المتحدة بسبب ولع الادارة بتكرار الحديث عن شكوكها نحو العراق، واعتبار هذه الشكوك دليلا على تمرد العراق.. وقد ربطت الصحافة الاوروبية بشكل يتفوق على الصحافة الامريكية بين سياسات الادارة الامريكية الحالية المتعلقة بمنطقة الشرق الاوسط وبين المقترحات التي قدمها العديد من اصدقاء حزب الليكود الاسرائيلي عام 1996 لرئيس الوزراء الاسرائيلي حينئذ بنيامين نتنياهو. وهؤلاء الاصدقاء الذين يشغلون الآن مواقع مؤثرة في الادارة الحالية، يظهر انهم هم السبب في اصرار الولايات المتحدة على شن حرب على العراق.. والطريقة التي تعاملت بها الولايات المتحدة مع التحفظات الاوروبية بشأن العراق، خلقت انطباعا بأن بعض زعماء الولايات المتحدة خلطوا بين حلف الناتو ومعاهدة حلف وارسو. وهناك مشاعر قلق مبررة ناتجة عن الانشغال الزائد بالعراق الذي لا يشكل تهديدا ملحا للأمن الدولي والذي يشوش على الحاجة للتعامل مع تهديد آني وفعلي واكثر خطورة تمثله كوريا الشمالية. وليس المقصود من الاطروحات المذكورة آنفا: ترك العراق وشأنه. فقد يتطلب الامر استخدام القوة حقا لفرض هدف نزع الاسلحة. ولكن استخدام القوة يجب ان يكون ضمن خطة تتفادى مخاطر ان تكون تكلفة الاطاحة بنظام صدام حسين باهظة جدا على زعامة امريكا للعالم.. على الولايات المتحدة ان تبدي رغبتها في منح عمليات التفتيش والتدقيق الدولية في العراق اشهرا عدة مطلوبة للتأكد بشكل واضح مما اذا كان العراق قد اذعن مرغما، ام انه يواصل التحايل المتعمد.. والرأي الذي يقول: ان نشر القوات الامريكية في المنطقة يستلزم اشعال حرب عاجلا، ليس بالضرورة رأيا موثوقا به. فالقوات الامريكية الجاهزة للحرب والتي تجاوز عددها مئات الالوف ظلت منتشرة في اوروبا لعقود طويلة».. اذن نحن نقرأ كما تقترح علينا. ولقد قرأنا كلام كيسنجر، وكلام بريجنسكي، واخترنا الاصدق والاعقل منهما. وانت قرأت كلام كيسنجر كما هو واضح، وندعوك الى قراءة كلام بريجنسكي، حتى لا يحبس المرء نفسه في سجن وجهة نظر واحدة، وعندها قد تفتر حماستك لحرب، لا تُعرف بواعثها واهدافها البعيدة والحقيقية.

* المؤيد للحرب: هذا جدل غير عملي يستفيد منه النظام العراقي الذي ينتهز كل فرصة للمزيد من المخاتلة والمراوغة والزوغان. وتاريخه يدل على ذلك.

ـ المعارض للحرب: هذه حريتك في اختيار وجهة نظرك. فدعني اكون حرا كذلك لاقول: نحن نقصد توضيح الحقائق والمفاهيم لرأي عام يُراد تضليله بالجملة، وعلى اوسع نطاق. ويكون النظام العراقي اغبى نظام في العالم اذا هو استغل هذا التوضيح والتبصير في المراوغة والالتواء والتسويف. واذا كنتَ انت تريد زوال النظام العراقي، فلماذا تجزع من مراوغته التي ستكون هي نفسها المقصلة التي تنهي عمره؟

ـ المعارض للحرب: لقد ابتدرتَ انت القول. فاذا اذنت لي بالاستئناف قلتُ: ان مناهضة الحرب ليست وجهة نظر معزولة ابداها بريجنسكي. فهذه المناهضة: اتجاه عالمي غالب، وقوي .. جد قوي، مثلا: المواكب والمظاهرات التي ماج بها الكوكب موجا من خلال 600 مدينة في العالم، والتي تركزت كثافتها في القارة الاوروبية: برهان عقلي وواقعي على نفور الجنس البشري من الحرب. واذا اخذنا الشعوب الاوروبية نموذجا فهي شعوب اوروبية لا عربية.. ومسيحية لا مسلمة.. ومتحضرة لا غوغائية.. وديمقراطية لا تساق بالعصا ولا تشحن بالترغيب او الترهيب في شاحنات للخروج في مظاهرات مفتعلة.. وهي شعوب غير معجبة بالنظام العراقي ولا محبة له.. وهي شعوب: الحرب بعيدة عنها، اي في غير قارتها وديارها. ومع ذلك هي تأبى الحرب وتقاومها بتبصر وعزم وتصميم ومسؤولية.. لماذا؟ ذلك ان الخبرات التاريخية التراكمية ـ فيما يتعلق بالحروب ـ قد أورثتها وعيا حصيفا بمخاطر الحرب، ونزوعا جماعيا مستنيرا وصادقا الى السلام.. ولهذا كله ينبغي ان يكون وعيها وارادتها في الحسبان أبدا.

* قال المؤيد للحرب: مع تقديرنا لحق الناس في التعبير عما يريدون، الا ان مصائر الامم، ومعالجة الازمات، لا تحسمها مظاهرات الشوارع مهما كان حجمها ونوعها. انما يحسم ذلك: القرارات الكبرى التي تتخذها القيادات.. انظر الآن: اين زخم تلك المظاهرات وتأثيرها؟ لقد كانت وميضا اسرع الى الخبو والانطفاء بفعل الاحداث المتلاحقة.

ـ قال المناهض للحرب: وعي الشعوب لا يخمد بهذه السهولة، والحقيقة هي: ان الاعلام المبتهج بالحرب هو الذي يحاول (اسكات) نبض الشعوب عن طريق الاهمال المرعب لما ينبغي ان يكون من تحليل وتعليل لهذه الظاهرة التي تكاد تكون معدومة النظير في التاريخ البشري: قديمه وحديثه.. ثم من قال: ان هذه الاتجاهات الشعبية الناضجة قد تبخرت؟ فوزير الخارجية البريطاني (جاك سترو) يقول: «من الصعب جدا شن حرب على العراق في ظل معارضة الرأي العام البريطاني لها».. وفي بيان القمة الاوروبية فقرة تقول: «ان القمة الاوروبية تستند الى اتجاهات شعوبها المؤيدة للسلام ولحل الازمة سلميا».. وكيف يستهين بالشارع من يدعو بغلو الى الديمقراطية والليبرالية؟ اليس (الشارع) هو الذي يعطي اصواته للمرشحين؟.. من زاوية اخرى: كنتَ قد قلتَ لي: ان النظام العراقي قد يستفيد من الكلام عن تأجيل الحرب او الغائها. وانا اقول لك: وقد يستفيد النظام نفسه من قولك: ان القرارات الكبرى تتخذها القيادات دون اعتبار للشعوب. فمن هذه القرارات ـ مثلا ـ: قرار اجتياح الكويت.

* قال المؤيد للحرب: لنكن صرحاء: انني انطلق في تأييدي للحرب الاميركية على العراق من قناعات يحترمها عقلي ووجداني وهي: ان الحرب ستزيل نظاما مستبدا.. وتنزع اسلحة الدمار الشامل التي ترعبنا جميعا.. وتساعد بفاعلية في مكافحة الارهاب. وآمل، بل ادعوك الى تبني هذه القناعات.

ـ المعارض للحرب: لو اجمع العالم ـ شعوبه وحكامه ـ على هذه الحرب، لثبتنا ـ ولو وحدنا ـ على موقفنا المعارض للحرب. لاننا نكره (حروب العدوان)، سواء سعَّرها مسلمون او غير مسلمين، ولذلك وقفنا ضد حرب العراق العدوانية على الكويت، ووقفنا ضد (العدوان الارهابي) على الولايات المتحدة، ونقف اليوم مناهضين للحرب الامريكية على العراق.. اما زوال الانظمة المستبدة فهذا خيار الشعوب وحدها.. واما ازالة اسلحة الدمار الشامل فهي مسألة تولاها مجلس الامن، ولننتظر ماذا سيقول في النهاية.. واما مكافحة الارهاب فليس هناك دليل واحد يثبت العلاقة بين النظام العراقي وبين الارهاب. يضاف الى ذلك: ان الحرب ليست وسيلة لمكافحة الارهاب، بل هي حدث دموي سيترتب عليه توسيع نطاق الارهاب يقينا.

* المؤيد للحرب: مهما يكن من شأن فاني اجد نفسي قريبا من تفكير الادارة الامريكية، ولذلك اؤيدها، وهذه حريتي.

ـ المعارض للحرب: ليس المهم: القرب او البعد العاطفي. وانما المهم ان يكون الانسان صادقا وامينا مع كل الناس. ومنهم الامريكيون.. ومن النبل ومحبة الخير لهؤلاء ان يقال لهم: في العالم معارضات قوية للحرب. ومن الحكمة: حسبانها (رأيا آخر) يمكن الاستفادة الثرة منه في مجال هندسة الرؤية الدولية وتمحيص القرار.

* المؤيد للحرب: هل تستبعد وقوع الحرب؟

ـ المعارض للحرب: لا.. ولكن، هناك فرق بين احتمال الحرب المكروهة، وبين الولع غير المسؤول بها.. لقد شرع لنا الدين: ان نرد القضاء بالدعاء المنطوق، أفلا ندفع الحرب ولو بكلمة مكتوبة؟