صفقة موسكو مع واشنطن: جورجيا مقابل العراق!

TT

اقتربت الأزمة التي أثارها نزوع الادارة الى التطرف والحرب حول العراق من فصلها النهائي. وربما انتهت تلك الأزمة بعمل عسكري بعد نهاية شهر شباط/ فبراير الجاري. هذا رأي أكثرية الناس. وربما أدت الى حل سلمي، لكن هذا رأي الاقلية من الناس.

وتحمل النتيجة النهائية الكثير من المعاني. هل تحصل الولايات المتحدة الأميركية على حق شرعي معترف به بشن هجمات عسكرية على بلدان أجنبية كما تشاء؟ هل يجد مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة وسائل لاجبار الحكومة الأميركية على الالتزام ببعض القواعد الدولية القائمة؟ هذا الشيء، لا مصير صدام حسين، هو صلب الموضوع في الأزمة الراهنة. فقد يستطيع النظام العراقي ان يبقى وقد لا يستطيع البقاء. وهذا أمر لا يهم المجتمع الدولي كثيرا. ما يهم هو ما إذا كانت هناك فرصة لاحتواء القوة الأميركية المهيمنة؟

ذلك ان انتهاء الحرب الباردة قد ترك الولايات المتحدة تسرح وتمرح باعتبارها القوة العظمى الوحيدة في العالم، خصوصا في مجال الحرب التقليدية. وقد أتاحت لها حرب «عاصفة الصحراء» في عام 1991 ان تثبت قدراتها في هذا المجال، وكذلك في الحرب ضد بلاد الصرب عام 1999، وفي الحرب ضد نظام «طالبان» في أفغانستان عام 2001. فما اثبتته آلة الحرب الأميركية من كفاءة عالية، ورغبة الحكومة الأميركية في اللجوء الى العمل العسكري كلما رأت ذلك مناسبا، خلقا شعوراً بالقلق لدى بقية الدول، سواء كانت تلك الدول حليفة للولايات المتحدة أم لا. إذ ان تلك الدول شعرت بأنها مكشوفة للضغط وبالدفع الى الحافة، ومن حقها المشروع ان تطالب بضمانات.

ومن شأن ذلك ان يخلق امكانية واهية لقيام تحالف فضفاض بين الدول التي تشعر بالارتياح في حال تحقق احتواء مأمون للقوة الأميركية، بما في ذلك روسيا.

وقد آثرت روسيا، خصوصا في بداية الأزمة العراقية في الخريف الماضي، ان تنأى بنفسها عن الولايات المتحدة وعن خصومها على السواء. ومن الواضح انه كانت هناك مصالح روسية مهمة (ولا تزال) في تلك الوضعية التي جعلت روسيا الى جانب الممتعضين من احتمالات الحرب في العراق. ومع ذلك فإن هذا الاتجاه لم يجعل روسيا في صف خصوم الولايات المتحدة.

هناك أولا وقبل كل شيء مصلحة اقتصادية روسية تتمثل في رغبة موسكو باسترداد ديونها العراقية المعترف بها من صدام حسين، ورغبة أكبر من السيطرة ولو على جزء على الأقل من انتاج النفط العراقي. فروسيا ترغب في التحول الى دولة نفطية عظمى، وهي بالتالي بحاجة الى تأمين الوصول الى جزء على الأقل من احتياطي النفط العراقي لتحقيق تلك الغاية. أما في حال شن حرب أميركية ضد العراق فإن روسيا سوف تخسر كل ذلك (بما في ذلك الضمانات الأميركية)!

ثانيا، امتعاض روسيا من كون شريكها الأميركي يستعد لمغادرة افغانستان من غير تحقيق أي شيء يمكن تسميته بالسيطرة على تلك البلاد. فإذا غادرت أميركا بلاد الأفغان، فإنها تضع روسيا وجها لوجه مع الأفغانيين الذين يشعرون بالغضب والمرارة تجاه الروس، سواء في طاجكستان أو حتى في بلاد الشيشان. وهذه مواجهة كلفت روسيا كثيرا في الماضي!

ثالثا، يبدو في ظاهر الأمر ان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد استنفد جميع ما يملك من تنازلات الى نظيره الأميركي. فقد ذهب بعيدا في تلبية الاحتياجات الأميركية لنقض معاهدة الحد من الصواريخ الاستراتيجية، ولتوسيع حلف شمال الاطلسي شرقا، والوجود العسكري الأميركي في آسيا الوسطى وجورجيا. ولم يقابل الأميركيون ذلك بالمثل حتى الآن.

وقد يماشي الرئيس الروسي صديقه الرئيس جورج بوش في تلبية احتياجاته لكن الى الحد الذي يمكن ان يفقده شعبيته في أوساط الوطنيين الروس والجيش الروسي.

ولذا، فإن كل ذلك يشير الى ان روسيا مضطرة بغير تحفظ الى الوقوف بجانب فرنسا وألمانيا في الأزمة الراهنة بشأن العراق، لكن المسلكية الروسية في الحقيقة لم تكن مباشرة وصريحة حتى الآن!

ففي الخريف الماضي، عندما كانت الأزمة العراقية في مراحلها الأولى، ظهرت اشارات قوية في موسكو ونيويورك حول امكانية عقد صفقة روسية ـ أميركية مؤداها: «أنتم تضربون العراق، ونحن نضرب جورجيا»! وكان العسكريون الروس على قاب قوسين أو أدنى من ارسال قوتهم الجوية لضرب المعاقل الشيشانية في أراضي جورجيا، لكن الجواب الأميركي على هذه الصفقة كان الرفض المطلق والصريح. فربما كانت واشنطن تأمل بأنها لن تواجه أي مقاومة بشأن العراق من أي جهة كانت. وربما لم تكن تحسب روسيا في عداد الدول التي يجب عقد «صفقة» معها، لكن هذه الفكرة انتهت الى لا شيء. ومن هنا التوجه الروسي الى فرنسا وتبني موقفها في مجلس الأمن الدولي بتحبيذ استمرار عمل المفتشين الدوليين في العراق.

ومنذ ذلك الوقت ظهرت صورة «جبهة متحدة» بين روسيا وفرنسا والصين بشأن العراق في مجلس الأمن الدولي يقول موقفها: أرسلوا المفتشين الى العراق، ثم استمعوا الى ما يقولون، ثم قرروا بعد ذلك ما إذا كنتم راضين عن نتائج مهمتهم أم لا، وبعد ذلك، وكملجأ أخير، فكروا في امكانية العمل العسكري. وقد أتاحت هذه «الجبهة المتحدة» لألمانيا ان تنضم الى فرنسا في معارضة المخططات الأميركية، وان تقترح اعتماد نوع من خطة سلام في العراق باشراف الأمم المتحدة!

أما الإدارة الأميركية فإنها لم تقبل قط بهذا الوضع، وطوال فصل الشتاء راحت الولايات المتحدة تغازل موسكو ديبلوماسيا، وقد جربت عدة «أفخاخ» مختلفة على أمل ان موسكو لا تتوجه توجها جديا في تحالفها مع فرنسا وألمانيا، ولهذا بعض الأسباب التي تبرره.

فمع اقتراب الربيع في بلاد الشيشان، عادت الحكومة الروسية لتشعر بنوع من القلق الشديد، كما ان الانتخابات البرلمانية سوف تجري في شهر كانون الأول/ ديسمبر المقبل، والانتخابات الرئاسية في آذار/ مارس 2004. وخلال هذا الوقت لا بد من تهدئة الوضع في بلاد الشيشان. ومع ذلك فإن امكانية ان تحقق موسكو انتصارا عسكريا هناك، هي امكانية ضئيلة، لأن قادة المقاومة الشيشانية ما زالوا على قيد الحياة ويمارسون نشاطهم على أشده، وقوتهم العسكرية ما زالت ملفتة، ومخازن الاسلحة لديهم متوفرة. ولهذا فإنه حالما تكتسي غابات التلال الشيشانية أوراقها، فإن مناوشات عسكرية مهمة قد تحدث هناك مما يجعلها ذات صلة وثيقة بواقع الأمر. إذ انها قد تضع المؤسسة العسكرية الروسية ورئىسها في وضع صعب، حيث يمكن ان تؤدي الى فشل محقق او الى تخييم شبح مثل هذا الفشل على مشارف الانتخابات. وتعلق موسكو آمالها كلها في بلاد الشيشان الآن على الاستفتاء المقبل حول الدستور الشيشاني، لكن الاستفتاء على الدستور المقرر في شهر آذار/ مارس، ما هو إلا بداية، وربما لزم الأمر، أكثر من اعتماد دستور للبلاد، القيام بعملية عسكرية أخرى لحصر الشيشان داخل بلادهم، واقامة نوع من الحزام الدولي الحاجز حول بلاد الشيشان.

ألهذا تتجدد فكرة شن حرب قصيرة ضد جورجيا؟ ربما كان الجواب: نعم. فإذا كان الجواب نعم، فإن هناك حاجة من جديد الى الموافقة الأميركية. وقد فهم الفرنسيون هذه الأولوية بالنسبة الى الرئيس الروسي، فاسقطوا انتقاداتهم له بشأن الشيشان بغية اغراء بوتين بدعم خطتهم للسلام في العراق. فهل تحذو الادارة الأميركية حذوهم في مساندة الرئيس الروسي في بلاد الشيشان على حساب العراق؟ هنا يكمن جل الموضوع الآن. فقد تعهدت روسيا بدعم الموقف الفرنسي ـ الألماني بشأن العراق، ويبدو ان الرئيس بوتين سوف يفي بوعده (لا سيما ان هناك اجماعا ضد الأميركيين في روسيا حول موضوع العراق)، لكن إغراء الحصول على مساعدة أميركا في الشأن الشيشاني قد يغلب يوما المصالح المتمثلة في اقامة تحالف أوروبي ضد الولايات المتحدة.

وفي تلك الحالة، فإن روسيا قد تفكر من جديد بعقد صفقة مع واشنطن يتم فيها دعم العمل العسكري الأميركي ضد العراق (كما ألمح الرئيس الروسي أخيرا) مقابل الدعم الأميركي لعملية عسكرية روسية ضد جورجيا!.

* نائب مدير «معهد دراسات الولايات المتحدة وكندا في اكاديمية العلوم الروسية» ـ موسكو ـ بالاتفاق مع «الديبلوماسي» ـ خاص بـ «الشرق الأوسط»