قضية عادلة ومحامون فاشلون

TT

«والله لو فعلها ابن الأصفر، لوضعت يدي بيد معاوية»، هذا الكلام منسوب للإمام علي عليه السلام، والذي يقال إنه قاله عندما سمع ان حاكم الروم «ابن الأصفر» بصدد تهديد الدولة الإسلامية أو غزوها، في وقت اشتداد الخلاف بينه وبين معاوية. وقد ترددت كثيراً في الاستشهاد به، وفيما إذا كان يصلح أصلاً على الحالة العراقية الراهنة، وهي تنتظر احتمال اندلاع الحرب.

لكن سماعي آية الله الشيخ محمد علي التسخيري، يقرأ هذا الحديث من على منبر الجنادرية (في الرياض) مؤخراً، مطالباً المسلمين عموماً، بفك الاشتباك فيما بينهم، والتنادي إلى «مصالحات» عامة وشاملة، متوجهين إلى التحدي الأكبر الذي يريد الشر والأذى بكل طوائف المسلمين وفئاتهم وطبقاتهم، حاكمين ومحكومين. ومن ثم سماعي لنبأ دعوة السيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، لما سماه «بطائف العراق» أو «المصالحة» الداخلية العراقية. إنما جعلني أقرب إلى تصديق مضمون هذا الحديث، رغم قول البعض بضعفه وربما بعدم صحته.

ورغم انني أعرف جيداً، بأنه ليس هناك ما يجمع بين الشيخ التسخيري والسيد حسن نصر الله بخصوص القراءة المشتركة لنظام صدام حسين وخريطة المعارضة العراقية، إلا ان القدر المتيقن من رؤيتهما السياسية المشتركة، هو القراءة العقلانية والملامسة للواقع إلى حد كبير للّحظة التاريخية التي يمر بها العالم، لا سيما منطقتنا الإسلامية والعربية منها على الخصوص. وهي النظرة، أو بتعبير أدق «تقدير الموقف»، الذي يشترك فيه معهما العديد من العلماء والمفكرين والمثقفين والأدباء وأصحاب الرأي على امتداد الوطن الإسلامي الكبير. وقد يكون السيد محمد حسين فضل الله والإمام الخالصي (العراق) أشهر المعنيين بهذا الملف.

وقد يفاجأ الاثنان، وكل من هاجمهما أو نعتهما بمختلف النعوت أو صبّ عليهما جام غضبه ولعناته وأساء إليهما عندما يكتشفان ويكتشف معهما معارضوهما، بأن من بين مَن يمكن أن يحشروا معهما في «تقدير الموقف»، هذا مطرب إيراني مشهور مثلاً، يقيم في الولايات المتحدة الأمريكية منذ قيام الثورة الإسلامية، وهو معارض شديد لها، لكنه اصدر بياناً مؤخراً «على الإنترنيت»، يهاجم فيه جماعة الشاه البائد بكل شدة، ويتهمهم فيما يتهمهم به، بأنهم «يفتقرون حتى لذرة من الوطنية الحقة أو حب الوطن، وإلا لماذا وكيف وما هو المبرّر الذي جعلهم يسكتون عن عسكرة المنطقة برجال القمع الأمريكيين والبريطانيين خلافاً لإرادة أهلها ولشعوبها المختلفة، التي تريد التنمية والحياة المستقرة والهادئة والسلام، ونبذ الحروب والعنف؟!»، كما جاء في كلمة المطرب الإيراني إبراهيم حامدي المعروف بـ «ابي».

بائس ريتشارد باوتشر هذا، عندما يظن أنه «عثر على الحقيقة الضائعة!»، بقوله: ألم نقل لكم إن هناك قضية مشتركة بين بن لادن وصدام حسين!.

لكن ريتشارد باوتشر هذا ومثله رئيس الديبلوماسية في بلاده، نسيا، أو تناسيا، بأن هذه القضية المشتركة موجودة بين عشرات الألوف، إن لم يكن مئات الألوف، بل والملايين «وبين صدام حسين»، ألا وهي «الضدية» لأمريكا، والسبب هو سياساتها الهيمنية والإملائية المتغطرسة، وهي بالمناسبة، ليست، لا من قريب ولا من بعيد، مع صدام حسين أو نظامه أو سياساته، وبالتأكيد ليست ضد آمال الشعب العراقي الشريف والمظلوم والمضطهد والمقموع من جانب صدام حسين، منذ نحو 30 عاما، على مرأى ومسمع وبدعم واسناد الإدارات الأمريكية المتتالية.

من حق المعارضة العراقية الشريفة والمخلصة والصادقة، وأكثرها يحمل هذه الصفات الوطنية معمدة بالدم، أن لا تثق بصدام حسين وبنظامه، خاصة أنه لم يقدم، حتى الآن، أي بادرة حسن نية تجاهها لا من قريب ولا من بعيد.

لكن، ليس من حقها أن تخون أو تنسّق أو تسفّه كل مَن خالفها في «تقدير الموقف»، ورأى مثلا، ان الخطر الأعظم هو في التواجد العسكري الأجنبي والذي هو أخطر من أسلحة الدمار الشامل العراقية، كما قال هاشمي رفسنجاني مثلا، أو مَن رأى أن من يعين أمريكا اليوم، إنما يعينها على فلسطين وسوريا ولبنان وإيران ومصر والعالم الإسلامي ومقدرات العراق، وليست ضد صدام حسين.

ثمة من يعتقد، ومنهم السيد حسن نصر الله، على ما أظن والله أعلم، أن من يقف بحزم وباستراتيجية واضحة ضد أمريكا اليوم، هو وحده القادر على اسقاط صدام حسين بأقل التكاليف على شعب العراق والأمة بشكل عام.

وثمة من يعتقد، ومنهم السيد حسن نصر الله، على ما أظن، بأن أمريكا ليست بصدد «اطفاء الحرائق في المنطقة»، كما يظن البعض خطأً، بل هي بصدد حروب أخرى متنقلة، ولكن من نوع جديد لن تكون ضحاياها وخسائرها أقل مما فعله صدام حسين في الـ 35 سنة الماضية، لأهل العراق وغير أهل العراق، بل ان أهل العراق سيكونون أكثر المتضررين منها قبل غيرهم.

من حق المعارضة العراقية أن تقول بأنه لا حول لها ولا قوة في تغيير النظام العراقي الراهن لوحدها وبأسلوب ديمقراطي وسلمي وحضاري، بسبب ما تقول إنه نتاج تركها لوحدها تعاني الأمرّين على مدى 35 عاماً دون نصير عربي ولا إسلامي.

ولكن ليس من حقها أن تجعل من ذلك سبباً لاستدعاء الأجنبي ليفعل ما يشاء بالعراق والمنطقة!، المهم ان يسقط نظام صدام حسين وبأي ثمن كان!.

تصوروا لو أن كل معارضات المنطقة وأغلبها يعاني من نفس المنطق «العاجز»، قررت استدعاء الحلفاء لاسقاط أنظمتها، هل يبقى حجر على حجر في المنطقة؟، ثم الأهم من ذلك، هل سيتم تسليم أي منها زمام أمور بلادها بعد «التحرير»؟!.

ثمة من يذكر هنا أيضاً، بأن هناك فرقاً شاسعاً وجلياً بين مقاتلة الأجنبي الغازي المحتل والغاصب للأرض وقواعد العمل والممارسة السياسية كما هي الحالة في فلسطين، وبين مقاتلة الحاكم الظالم والمستبد، والفرق هنا لا يتعلق بتقييم شخصية الحاكم، كما يحاول اخواننا العراقيون دوماً عندما نسمعهم يصرخون بأنه أسوأ من شارون.. إلخ، بل ان الأمر يخص مجموعة من قواعد العمل السياسي والكفاحي تتطلب فيما تتطلب، بأنك في حالة الكفاح ضد الحاكم الظالم غير مسموح لك بالإضرار لا بالبنية التحتية لبلادك ولا إزهاق أرواح الجنود والضباط ولا رجال الأمن و.. الخ، وهو ما كان يرفضه بتاتاً رجل مثل الإمام الخميني مثلا. بينما القاعدة مع الغازي والمحتل هي: «اقتلوهم حيث ثقفتموهم..»، وهي بالمناسبة بند من بنود حلف الأطلسي في حربه ضد أعدائه أيضاً!.

وعودٌ على بدء أقول: إذا كان من حق أبناء العراق أن يقرروا مصير بلادهم بأنفسهم، وأنهم أحرار في هذا الخيار، باعتبار أن كلمة الفصل لهم وحدهم في النهاية، رضي بذلك أم لم يرض مَن قد يختلف معهم في الرأي حول الخيارات، إلا أنه ليس من حقهم، والأهم من ذلك ليس من مصلحتهم، ولا في صالح قضيتهم حتى لو اعتبرناها «عراقوية» محضة، ان يعادوا ويسبوا ويلعنوا ويفسّقوا ويخوّنوا كل من يختلف معهم. والأهم من كل ذلك، ان يضعوه في صف صدام حسين فقط، وفقط لأنه لا يقبل بالخيار الأمريكي للعراق.

ان اخوانكم في الدين أو العروبة أو الإنسانية والذين باتوا يشكلون جبهة عالمية ضد الحرب، إنما يبحثون عن طريق ثالث للخلاص، ليس فيه «فرعنة» بوش، ولا «طغيان» صدام حسين. والنوايا الطيبة والقضية العادلة هنا لا تكفي، المطلوب محام قدير وكفوء يحمل أكبر قدر من إجماع أهل الأرض الذين تهدّدهم الحرب القذرة على الموارد.