طريق برلين إلى بغداد

TT

من البديهي القول أن الاقتصاد هو عصب السياسة، وان المصالح الاقتصادية هي التي تصنع السياسة وتوجهها، غير أنها لا تكفي بمفردها لتفسير الإشكاليات و التشابك في المواقف السياسية وخاصة في زمن الحرب. و يأتي الموقف الألماني، الرافض للحرب الاميركية المحتملة على العراق، مثالا حديثا على هذه الإشكالية. فالمعروف أن ألمانيا تسعى بشدة، سوية مع فرنسا، الى إنشاء مركز أوربي للاقتصاد العالمي يعزز من مكانة القارة الأوربية، وألمانيا الاتحادية في المقدمة، لتكون طرفا قوي التأثير في السياسة الاقتصادية والمالية العالمية، وفي مجال التجارة الدولية، وللوصول الى الأسواق العالمية دون عوائق. كما ترغب ألمانيا، قبل غيرها من الشركاء الأوربيين، في أن ترى نفسها تتقدم قوة عسكرية أوربية على أساس التراث العسكري الأوربي، لضمان أمن القارة و بناء قدراتها الدفاعية الذاتية. ولالمانيا ايضا، برنامج طموح ومشروع في أن تحتل مكانة في برامج أبحاث الفضاء والأبحاث العلمية، وفي أن يكون لها حضورها في هذا الميدان بعيدا عن ظلال الماضي الذي كبل طاقاتها لعقود من السنين.

ويقدم الوضع العراقي فرصة تاريخية لبرلين كي ترد الاعتبار لنفسها، وترفع صوتها ضد شن حرب ترى فيها الشعب العراقي الضحية الأولى، وتحذر من مغبة اخذ الضحية بجريمة الدكتاتور الذي ساهم الغرب في صنعه، وهي بذلك، تعيد الى الأذهان، ضمنا، ما تعرض له الشعب الألماني إبان الحرب العالمية الثانية، والثمن الغالي الذي دفعه، والعقاب الذي تعرض له، حتى بعد انتهاء الحرب، حيث واصلت طائرات الحلفاء قصف المدن الألمانية، بينما كانت الحرب قد وضعت أوزارها وجيش الرايخ الثالث قد رفع راية الاستسلام والدكتاتورالنازي قد سقط، فكان حريق المدن الذي لا تزال الذاكرة الألمانية تشعر بقسوته. وربما إدراكا منها للمشاعر الشعبية الالمانية في هذا الاتجاه، تسعى حكومة المستشار جيرهارد شرودر وتخطط لتجييرها لصالحها في معارك انتخابية آتية بلا شك. صحيح أنه ستكون لاوروبا، كما للولايات المتحدة، مصالح اقتصادية في العراق عندما يزول نظام صدام، حيث سيفتح المجال للشركات العالمية المختلفة للتنافس في الحصول على عقود استخراج النفط العراقي ومشاريع إعادة الأعمار. لكن الخلاف بين الموقفين الاميركي و الألماني تجاه العراق، يمكن فهمه من اكثر من زاوية نظر سياسية أولا، ففي حين ترغب اميركا، وعن طريق الحرب التأديبية، تقديم المثال على قدرتها الفعلية لضرب من تشاء و متى تشاء، على أساس كونها القطب الوحيد والأقوى، تريد ألمانيا، مع غيرها ممن يعارضون الحرب، أن تقف ضد السياسة الاميركية التي من شأنها أن تفسح المجال لحروب مماثلة أخرى قد تشنها الولايات المتحدة في المستقبل، وستجد الشرعية لها على طريقتها ولن يستطيع أحد الوقوف أمامها.

اذن، نحن أمام حرب باردة جديدة يخوضها هذه المرة الغرب فيما بينه في الدرجة الأولى. فالمصالح الاقتصادية الألمانية مع العراق محدودة جدا مقارنة بمصالحها مع الولايات المتحدة الاميركية، التي تشكل السوق الأولى للصادرات الألمانية، وقد وصلت قيمة هذه الصادرات الى السوق الاميركية عام 2001 الى 76.8 مليار يورو، في حين لم تتعد صادراتها الى العراق اكثر من 336 مليون يورو في العام نفسه، كما أن العراق يقع في المرتبة الخامسة والسبعين في قائمة الدول التي تصدر لها ألمانيا. و حتى في المستقبل، وبعد الإطاحة بالنظام العراقي وافتراض وصول حكومة موالية للولايات المتحدة، فمن المنطقي أن تفرد هذه للشركات الاميركية حصة الأسد في مشاريع بناء عراق ما بعد الحرب، ولن تكون ألمانيا منافسا قويا في ظروف ساهمت هي في صنع عزلتها وتحملت مسؤولية ذلك. و في الوقت الذي أثبتت فيه ألمانيا قدرتها العسكرية الجديدة، في إطار مشاركتها في الحرب ضد يوغسلافيا، وتماشيا مع مصالحها آنذاك، وحتى في أفغانستان، فان برلين ترى اليوم في الوضع العراقي فرصة لإظهار نفسها قوة أوربية من اجل السلام، بما ينسجم مع مصالحها، فضلا عن ان لديها قدرا من الخشية و التوجس من الطموح الاميركي للانفراد بثروات منطقة الخليج النفطية، ووضع اليد على المنطقة على المدى البعيد.

و على الرغم من أن الحرب التي ستشن على العراق تجري في إطار ما يدعى الحملة لمكافحة الإرهاب عقب أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) عام 2001، وهي حملة اعلنت ألمانيا في حينها عن وقوفها فيها الى جانب الولايات المتحدة و تأكيد دعمها اللامشروط لها، إلا إنها سرعان ما غيرت موقفها معلنة ابتعادها عما أسمته روح المغامرة الاميركية، وبدأت تتحدث عن «الطريق الألماني» لمواجهة الأحداث العالمية، وهذا ما لم يرق لواشنطن وقاد الى تأزم العلاقات بين البلدين.

وبالاضافة الى الدوافع الاقتصادية والسياسية، فان هناك بعدا اخلاقيا للموقف الالماني المناهض للاندفاع الاميركي نحو الحرب، يتمثل في الدفاع عن أسس الديمقراطية الغربية التي تبدو الان في خطر. وهذا شأن ألماني ـ أوربي ترى برلين ان من حقها أن تقول كلمتها فيه.

*كاتبة عراقية مقيمة في برلين