لكي نعرف ما يجري في تركيا علينا أن ننظر إلى ما يجري في فنزويلا!!

TT

مرة أخرى رحمات الله عليك يا حسني البورظان، تلك الشخصية الكوميدية السورية المغلوب على أمرها امام كيد زميله اللدود غوّار الطوشة.

حسني البورظان، كان يجسد بالضبط الانسان العربي الساذج، السليم النية والقليل الحيلة، الذي طالما سقط ضحية مكر رفيق دربه غوّار ومقالبه ومؤامراته، ومع ذلك لم يتعلم ولم يتعظ. وكانت المقارنة الدولية الطريفة من اشهر مقولاته، ولكن ليس ثمة اوفق اليوم من ربط تركيا بدول أميركا اللاتينية امام خلفية «الحكمة» البورظانية.

فقصة تركيا مع الديمقراطية المستجدية تسامح «العسكر» شبيهة جداً بقصص الديمقراطية الهشة في اميركا اللاتينية بعد انتهاء الحرب الباردة، حيث لم تنضج المفاهيم الديمقراطية بعد، ولم تصل الى الاقتناع الذاتي بقدرتها على نزع سلاح النفوذ السياسي والمصلحي من جنرالات الجيش، او «كتل الضغط» الثرية.

التاريخ يخبرنا ان حسابات الحرب الباردة عزّزت مكانة الجيوش في العالم الثالث. كذلك عزز مكانة الجيوش تواضع التقاليد البرلمانية وركاكة الاحزاب المطلبية المؤهلة لممارسة اللعبة الديمقراطية-وفق التعريف الغربي طبعاً-، بحيث صارت الجيوش في معظم دول آسيا وافريقيا واميركا اللاتينية احزاباً قائمة بذاتها لها فلسفتها، ومنظورها، ومصالحها الخاصة على الأرض.

أكثر من هذا، لعبت الجيوش دوراً حاسماً في بناء ولاء قوي ـ وان كان مشوشاً احياناً- لكيانات ما بعد الحقبة الاستعمارية. ولا شك ان دور الجيش في دول «تعددية» الثقافات مثل نيجيريا والهند وباكستان واندونيسيا يتجاوز حماية الحدود، ليمتد الى حماية شرعية الكيان والمنطق الذي يستند اليه.

وأخيراً، لا آخراً، كان من أهم ما تمتعت به الجيوش واستعصى على غيرها من التجمعات، كالأحزاب مثلاً، انها تجمعات تملك السلاح وتستخدمه في ظل القانون وتدفع للمنضوين تحت بيارقها مرتبات تكفيهم غائلتي الفقر والتشرد. في حين لا تستطيع الاحزاب ان تحمل السلاح او تنفق على محازبيها الا إذا كانت منخرطة في حروب اهلية او ثورات مسلحة تغذيها القوى الكبرى يساراً ويميناً ...إبان فترة الحرب الباردة طبعاً.

نهاية الحرب الباردة، وفق السرد الذي تقدم كان لا بد ان تبدّل قوانين اللعبة تماماً، وبالفعل هذا ما حدث.

فالولايات المتحدة وجدت نفسها في وضع مريح عالمياً، تتحكم فيه بالنفوذ العالمي بلا منازع حقيقي، وتسيطر على المؤسسات الضابطة للسياسة والأمن الدوليين بلا قيد او شرط، بلا حسيب او رقيب، بلا تحد او تشكيك. وبالتالي، تضاءلت حاجتها للسكوت على تجاوزات انظمة تسلطية وقمعية كانت راضية بها من قبل لأنها كانت مفيدة لها بحكم منطق المواجهة مع الكتلة الاشتراكية السوفياتية ومعادلاته. وهذا يفسر كيف فقد أمثال مانويل نورييغا وسوهارتو وفرديناند ماركوس وورثة اوغوستو بينوشيت حظوتهم بسرعة في واشنطن.

ايضاً، لم تجد واشنطن غضاضة في التعايش مع الحكومات «الثورية» الميالة الى الاعتدال والتعايش مع نظام القطب الواحد العالمي الجديد، كحكومات فيتنام وكمبوديا وانغولا وموزامبيق، وبخاصة إذا كان استمرارها لا يشكل مخاطر استراتيجية في مناطق «ساخنة» بالنسبة للولايات المتحدة.

وفي المقابل، وجدت واشنطن من الضروري اعتماد، ومن ثم ترويج، «ثقافة سياسية» بديلة في علاقاتها مع دول العالم الثالث بعد انتهاء الصراع مع السوفيات، تقوم على شعارات ومبادئ مستقاة من الشعارات والمبادئ المستخدمة اصلاً ضد الكتلة السوفياتية ذاتها، كالحريات السياسية والديمقراطية والتعددية وحقوق الانسان. وكان بديهياً ان تصبح هذه الشعارات والمبادئ واجبة التطبيق على الجميع إذا كان لها ان تحافظ على صدقيتها كهوية قاطعة غير قابلة للتجزئة والاستثناءات للنظام العالمي الجديد. وهكذا فقد مزيد من الاصدقاء «الثقلاء» حظوتهم.

بطبيعة الحال «ترويج» الديمقراطية في دول لم يسبق لها فهمها، ناهيك من ممارستها، كان وما زال مسألة عويصة. فكما يقال «لا ديمقراطية بلا ديمقراطيين». وعليه شهدنا حالات من التخبط والفوضى في عدد من دول الكتلة الشرقية (آذربيجان وجورجيا ومنغوليا على سبيل المثال لا الحصر) خلال السنوات الاولى من عهد ما بعد الشيوعية نتيجة انعدام الوسائط والضوابط الكفيلة بحماية عملية التقدم نحو ممارسة تمثيلية مسؤولة فيها حد ادنى من المحاسبية. كذلك شهدنا تغييرات حدود بالجملة سواء عبر حروب اهلية كحال يوغوسلافيا السابقة، او بالتراضي كحال تشيكوسلوفاكيا السابقة، او بالمغريات والاكراه كحال الاتحاد السوفياتي السابق.

المهم في الأمر، ان الديمقراطية لم تأت حتى هذه اللحظة الى العديد من الدول الحديثة العهد بها بطريقة «كن فيكون». ورغم القشرة اللماعة الجميلة التي نراها وقد غطت الثكنات و«انقلابييها»، ما زال الاقتناع الشعبي بغلبة الارادة الشعبية على آلية عمل مؤسسات السلطة ضعيفاً للغاية في دول عديدة.

ففي فنزويلا، رأينا كيف يواجه حكم هوغو شافيز موجة معارضة منظمة عارمة من اصحاب رؤوس الاموال، مدعومة دولياً، تطالبه باختصار مدته الرئاسية ...رغم انه منتخب ديمقراطياً بأغلبية اصوات كبيرة ولم يكمل حتى اليوم منتصف مدته الرئاسية الثانية.

وفي تركيا، حيث كان الجيش، الوفي لتركة مصطفى كمال (اتاتورك) العلمانية، وراء إجهاض كل الانتصارات الانتخابية للقوى الاسلامية تحت مختلف مسمياتها، ما زال هذا الجيش حتى هذه اللحظة «الحزب» الأقوى، والقوة المتمتعة بالدعم الاستراتيجي الدولي ضد خصومه في الحلبة السياسية. وهو في موضوع الحرب على العراق لاعب أساسي سيكون من الغباء المفرط إسقاطه من الحساب رغم الاغلبية البرلمانية الضخمة التي يتمتع بها الاسلاميون.

والشيء نفسه وإن بصورة أقل رقياً ينطبق على باكستان، التي عاشت عقوداً تحت حكم العسكر، تخللتها «نوبات» قصيرة من الديمقراطية المفتعلة التي بالكاد تعني شيئاً لمواطنيها الـ150 مليونا او للقوى الكبرى التي تعامل معها.

اليوم هناك كلام متزايد عن «مشروع» ترويج للديمقراطية في منطقة الشرق الاوسط، وفي اعتقادي ان مشروعاً كهذا يحظى بتأييد غالبية ضخمة من مواطني هذه المنطقة. الا انني أخشى ان يكون الكلام عاطفياً وتسويقياً، وابعاده انتقائية، ومضمونه محدوداً ومجتزأً، وهذا ما يخشاه ايضاً نفر من المعلقين الاميركيين بالذات. ففي العدد ذاته من صحيفة الـ«نيويورك تايمز» كتبت مورين داود في سياق انتقادها منظور الادارة الاميركية الحالية «بينما يحاول امبرياليو (إدارة) بوش الوقحون تنصيب ديمقراطية جديدة في العراق، نراهم متضايقين من الديمقراطية العتيقة التي يمارسها حلفاؤنا المترددون (في خوض الحرب)...».

وكتب زميلها توماس فريدمان «ثمة أمر يثير الإعجاب في تصويت الديمقراطية التركية ضد تقاضي رشوة للانجرار الى حرب لا يريدها الشعب التركي. وسيكون من المخجل ان نجبر الاتراك على إجراء تصويت ثان، ولا سيما انه اتيح لبرلمانهم دراسة موضوع الحرب اكثر مما اتيح للكونغرس الاميركي».

وكل ديمقراطية ...وانتم والجميع بخير.