أمم متحدة تجاوزت عمر عطائها

TT

ايا كانت نتيجة الجولة الحالية من النشاط الدبلوماسي لمجلس الامن، تظل هناك حقيقة اتضحت ملامحها سلفاً وهي أنه يجب الا تستمر الامم المتحدة في العمل كما هي. وبدلاً من أن تكون الامم المتحدة جزءا من الحل للعديد من المهددات التي يتعرض لها السلام والامن، فإن المنظمة التي بلغت سن الثامنة والخمسين عاماً هي الآن جزء من المشكلة.

إن الامم المتحدة هي المؤسسة المركزية ضمن عدد من المنظمات الدولية التي أنشئت في نهاية الحرب العالمية الثانية وتشكلت خلال حقبة الحرب الباردة. وتشمل هذه المنظمات صندوق النقد الدولي ومنظمة الصحة العالمية ومنظمة اليونسكو والاتفاقية العامة للتعريفة والتجارة، التي تحولت اخيراً الى منظمة التجارة الدولية.

وقد تعرضت بعض هذه المنظمات، خاصة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، طويلاً للانتقادات، فاعتبرها اليسار أدوات لـ«الامبريالية» الاميركية بينما تخوف اليمين من ان تحد تلك المنظمات من سلطة الحكومات الوطنية.

إن كل من يعرف عن قرب ما يسمى بـ«النظام العالمي»، يمكنه تلمس عدم الفعالية التي تتميز بها بيروقراطيته وعدم كفاءته السياسية وفساده. فغالبية رؤساء هذه المنظمات يتصرفون وكأنهم ملوك صغار لهم محاكمهم وسياساتهم المتبعة التي تهدف الى بقائهم. وعلى عكس قادة الحكومات في المجتمعات الديمقراطية، فإن رؤساء هذه المنظمات غير معرضين للرقابة العامة ولا يواجهون انتخابات عامة. وهم يتمتعون بالحماية من مخاطر مثل الاغتيال والانقلابات والثورات التي يواجهها القادة في المجتمعات غير الديمقراطية. ولأن اعضاء الامم المتحدة ينتخبون «حكام» هذه المنظمات فإن النظام استند الى الخداع بما في ذلك توزيع المناصب والهبات.

وصف تاليراند الدبلوماسية، ذات مرة، بأنها أداة لتأجيل الفعل، او انها «تجعل التعجل بطيئاً» لمنع الحكومات من ارتكاب الخطأ. ربما كان هذا صحيحاً في أوربا في اعقاب العهد البونابرتي، إذ كانت هناك حاجة لفترة نقاهة لكي تلتئم الجراح. وربما يكون ذلك مفهوماً ايضاً خلال حقبة الحرب الباردة حينما كان من المحتمل ان تقود الافعال المتعجلة الى حرب نووية. لكن ما يسمى بـ«النظام العالمي» يستخدم اليوم كثيراً لتأجيل اعمال مفيدة تهدف الى محو خطأ أو منع وقوع مأساة.

ما كانت الامم المتحدة ستصدر قراراً يسمح لتنزانيا بغزو أوغندا وابعاد عيدي أمين عنوة، وتمنع بذلك وقوع حمام دم قضى على عشرات الآلاف من البشر، ولم تكن الامم المتحدة ستوافق عندما غزا الجيش الفيتنامي كمبوديا للتخلص من الخمير الحمر الذين كانوا قد قتلوا سلفاً نصف سكان كمبوديا. ولم تكن الامم المتحدة ستصفق للتحرك الاميركي الذي ازاح طغاة من السلطة في غرينادا وهاييتي واستعادة حكومتين ديمقراطيتين.

كان للأمين العام السابق للامم المتحدة بطرس بطرس غالي، الشجاعة للاعتراف بأن الامم المتحدة ارتكبت ذنبا باهمال اجرامي عندما لم تتحرك لوقف مذبحة في رواندا، وقد غضت الامم المتحدة الطرف عن حرب ابادة شنتها روسيا في الشيشان حيث تم تحطيم شعب بأكمله. وفي كل مرة يقوم فيها أحد ما بتصحيح خطأ يكون ذلك خارج اطار الامم المتحدة (كما كان الحال في كوسوفو).

خلال معظم سنوات عقد الثمانينات، ظلت الامم المتحدة تتفرج، ويحتمل انها ظلت تصلي ايضا في الوقت الذي قضى نحو مليون ايراني وعراقي نحبهم في حرب اشعلها صدام حسين. وقد انتهى مجلس الامن الى اصدار قرار عام 1988، لكن العراق ما زال يواصل انتهاكه للقرار الى يومنا هذا. وفي عام 1990، أمرت الامم المتحدة باخراج العراق من الكويت المحتل. وعلى امتداد 12عاماً اصدرت 18 قراراً طالبت فيها العراق القيام باجراءات محددة حول عدد كبير من القضايا. لكن بغداد لم تنفذ ايا من التزاماتها، بما في ذلك احترام حقوق الانسان داخل العراق نفسه.

واليوم تشير خريطة العالم الى وجود 66 نزاعاً بدرجات مختلفة من الحدة، بعضها ساكن وبعضها شبه ناشط وبعضها ملتهب. ومن بين هذه النزاعات هناك 22 نزاعاً يمكن وصفها بأنها إما ناشطة أو ملتهبة. وهذه النزاعات تمتد من الحرب على غرار المذبحة التي تشنها ميانمار(بورما سابقاً) ضد المسلمين والاقليات الاخرى غير البوذية، الى الحرب الاهلية الحالية في ساحل العاج، مروراً بالنزاع الفلسطيني ـ الاسرائيلي. وفي كل حالة تقريباً من هذه الحالات، اما ان تكون الامم المتحدة متغيبة أو تُستخدم كأداة لتأخير الحل. والعذر المتبع في ذلك بالطبع، هو ان الامم المتحدة ليست سوى حاصل جمع اعضائها وبالتالي لا يمكن ان يوجه اليها لوم على هذا النحو.

لكن ذلك العذر يتجاهل حقيقة ان اي تركيب لعناصر متناقضة يطور هويته المحددة، وبالتالي فإن الامم المتحدة هي تركيب أكثر وأقل، في الوقت نفسه، من حاصل مجموع اعضائها.

لقد تأسست الامم المتحدة على افتراض أن كل اعضائها متساوون في المكانة ولهم مصالح وتطلعات ومشاغل متساوية، كم يبدو مثل هذا التصور محض اسطورة.

إن أكثر الاعضاء جدة، وهو سويسرا، ليست في مستوى أفغانستان أحد الاعضاء المؤسسين للامم المتحدة. كما انه ليس لجزر المالديف مشاغل الصين نفسها. كما ان اغلبية اعضاء الامم المتحدة ليسوا في وضع يمكنهم من تطوير تحليل عن الوضع العالمي، وهم على احسن تقدير مشغولون ببقائهم الذاتي. ولهذا فإنهم لا يرون ما يمنعهم من منح رئاسة مفوضية الامم المتحدة لحقوق الانسان الى ليبيا بينما يصوتون لابعاد الولايات المتحدة منها، أو أن يطلبوا من عراقي رئاسة لجنة لنزع السلاح.

أما الوضع في مجلس الامن فإنه اكثر شذوذاً. فالاعضاء الخمسة الدائمون، أو اصحاب حق النقض(الفيتو)، يمثلون التوازن في السلطة التي لم تعد كذلك منذ أمد بعيد. واليوم تعتبر الهند لاعباً كبيراً، من حيث عدد السكان والقوة الاقتصادية، أكثر من فرنسا وبريطانيا وروسيا. وعلى مستوى النفوذ الاقتصاي والعون للدول النامية، فإن المانيا واليابان تأتيان في المرتبتين الثانية والثالثة من حيث قوتهما الاقتصادية عالمياً بعد الولايات المتحدة.. وحتى لو اعطى المرء الاعتبار للتوزيع الاقليمي فلا يمكن فهم لماذا تكون لاوربا ثلاثة مقاعد تتمتع بحق النقض في المجلس بينما لا يوجد في اميركا اللاتينية او افريقيا من يتمتع بهذا الحق. إن كل الشعوب التي تملك حكوماتها حق النقض لا يزيد عدد سكانها عن ربع سكان العالم.

حين يتعلق الامر بالدول غير الدائمة العضوية في مجلس الامن فإن ما نجده لا يعدو ان يكون مجرد لوتري (يانصيب). إن التركيبات التوافقية في اطار العضوية يمكن ان تأتي بنتائج عكسية في اطار الحوار نفسه، ويستطيع المرء أن يتصور عضوية تعطي قراراً جديداً تقدمه الولايات المتحدة وبريطانيا كل الاصوات العشرة للاعضاء غير الدائمين في المجلس، ولكن يستطيع المرء أن يتصور قائمة اخرى من الدول الاعضاء تصوت جميعها ضد هذا القرار نفسه. ولكن في معظم الاحوال يطالب المجلس بالتصويت على نصوص غامضة إن لم تكن ماكرة، وهي بدلاً من ان تحل المشكلة المطروحة تخلق مشاكل جديدة. والقرار رقم 242 حول فلسطين هو خير مثال لذلك. اما القرار الآخر فهو القرار 1441، الذي اعتقد مقدموه أنه يسمح بشن الحرب. لكن اربعة، على الاقل، من الذين صوتوا الى جانبه، فعلوا ذلك اعتقاداً منهم بأنه يمنع الهجوم العسكري على العراق.

إن من السوء بمكان أن يضع الذين يملكون حق التصويت مصالحهم قبل المصالح الاوسع للسلام والامن العالميين. والاسوأ من ذلك هو احتمال أن تقدم مجموعة من الدول الصغيرة على منع المجلس من اتخاذ موقف.

نظريّاً، من الممكن ان ينشأ وضع يمكن فيه أن تمنع دول توجو وليسوتو وجزر المالديف وسانت كتس وبرجواي مجلس الامن من اتخاذ قرار ملزم.

لقد وصف كورت فالدهايم، الذي تقلد منصب الامين العام للامم المتحدة خلال دورتين، الامم المتحدة، ذات مرة، بأنها «آلية للكذب من اجل تدعيم السلام». وفالدهايم الذي كذب بشأن ماضيه النازي الخاص، يعرف عم يتحدث. لكن لا شيء ذا قيمة يمكن إنشاؤه بالأكاذيب، سواء كانت دبلوماسية أو غير دبلوماسية.